ظلّ جود
الفصل الأول – ظلّ على القلب
«لا… توقفوا! أرجوكم، صدّقوني!»
الصوت لم يكن مجرد صرخة، كان جرحًا يخرج من أعماقها، يتسرب من قلبها قبل أن يصل إلى شفتيها. كانت يدها تمتد في الظلام، تبحث عن مخرج، عن لمسة رحمة، لكن لا شيء سوى فراغ بارد يبتلعها.
الأصوات تتباعد، تتلاشى… حتى جاء الصمت. صمت كثيف، كأنه غطاء ثقيل وُضع على روحها، يمنعها من التنفس.
شهقت ليان فجأة وهي تفتح عينيها، أنفاسها متلاحقة، وقطرات العرق تلمع على جبينها. شعرت أن قلبها يركض، يسبقها، وأنه سيتركها خلفه. مدت يدها لتمسح وجهها المرتجف، لكنها لم تمسح الخوف.
همست لنفسها، وكأنها تحاول إقناع قلبها بالكف عن الارتجاف:
– «لماذا؟ لماذا لا تتركني هذه الذكريات؟ لماذا تعود كل ليلة… وكأنها لم تشبع من تمزيقي؟»
لم يمهلها الليل لتغرق أكثر في أفكارها، فقد قطع طرق خفيف على الباب هذا السيل الجارف من الذكريات. انتفضت قليلًا، أسرعت تمسح دموعها بأصابع مرتجفة، وعدّلت جلستها على السرير.
أجبرت نفسها على ابتسامة، تلك التي تعلم جيدًا كيف تصنعها حتى لا يقلق أحد:
– «ادخلي يا أميرتي.»
فتحت الباب طفلة بعيون عسليّة، واسعة كأنها تحمل عالماً من الدهشة. شعر أسود ناعم مربوط بذيل حصان، وزيّنت الربطة بشريط وردي باهت أهدته لها أمها قبل ثلاث سنوات. جود… ثمان سنوات فقط، لكنها بالنسبة لليان كل العمر.
قالت جود بخجل وهي تلمس طرف فستانها:
– «أمي الجميلة… هل أيقظتك من نومك؟»
ابتسمت ليان، وفي عينيها لمعة حنان ممزوجة بحزن عميق، حزن لا يراه إلا من يقرأ القلوب:
– «لا يا جود، لم توقظيني… تعالي هنا.»
ضحكت جود بخفة، وركضت لترتمي في حضن أمها، ذراعاها الصغيرتان تطوقانها وكأنها تخشى أن تذوب من بين يديها.
سألتها ليان وهي تضمها بقوة:
– «ولماذا أنت مستيقظة في هذا الوقت يا عصفورتي؟»
عبست الصغيرة قليلًا، ثم رفعت عينيها البريئتين وقالت:
– «لا أعلم… لكني شعرت أني مشتاقة لك كثيرًا.»
كلماتها كانت كاليد الدافئة التي تهدئ قلبًا مذعورًا. شعرت ليان بحرارة تسري في صدرها، وابتسمت وهي تدغدغها حتى امتلأ الجو بضحكات صغيرة، ضحكات بددت وحشة الليل للحظات، لكنها لم تمحُ الغيمة الثقيلة فوق قلب الأم.
لعبتا قليلًا، حتى نامت جود بين ذراعيها. ليان قبلت جبينها بهدوء، وضمتها أكثر، كما لو أنها تحفظ ملامحها في قلبها خوفًا من أن يسلبها الزمن منها. لكنها لم تستطع النوم… لأن عقلها كان يسافر بعيدًا، نحو قرية تركت فيها جزءًا من روحها.
مع أول خيوط الفجر، تسلل الضوء من نافذة الغرفة، يلون جدرانها الباهتة بلون ذهبي لطيف. نهضت ليان ببطء، متجنبة إيقاظ جود، واتجهت إلى المطبخ الصغير. صوت غليان إبريق الشاي امتزج بذكريات قديمة: ضحكة أمينة، رائحة خبز الطابون، أصوات خطوات على فناء بيت الطين.
اقتربت من السرير، وأيقظت جود برفق وهي تهمس:
– «صباح الخير يا أميرتي.»
فتحت الصغيرة عينيها، تمطت، ثم جلست وهي تفرك عينيها:
– «صباح النور، أمي.»
جلسوا على الطاولة، جود تتحدث بحماس عن حلم غريب رأته، وليان تبتسم وتشاركها، لكن قلبها كان يعد اللحظات… كم بقي لها لتترك لجود ذكريات سعيدة؟
وضعت كوب الحليب أمامها، ثم قالت بصوت دافئ:
– «أميرتي، عندي لك مفاجأة اليوم.»
رفعت جود رأسها بسرعة، عينيها تلمعان:
– «ما هي؟!»
ابتسمت ليان وقالت:
– «سنذهب اليوم إلى القرية… عند أمينة.»
قفزت جود من الفرح، تدور في المطبخ وهي تضحك. لم تكن تعرف الكثير عن أمينة، لكن الاسم وحده جعل قلبها يشعر بالدفء.
الطريق إلى القرية كان طويلًا. السيارة تهتز على الطرق المليئة بالحفر، والحقول تمتد على الجانبين بلا نهاية. جود تلتصق بالنافذة، تشير بحماس على كل بقرة أو حصان يمر. أما ليان، فكانت تمسك المقود بقوة، وعيناها تتفحصان الطريق، بينما قلبها يهرب منها في كل منعطف.
مع كل متر يقترب بها نحو القرية، كانت تسمع الماضي يهمس: نظرات اتهام، كلمات جارحة، أبواب أغلقت في وجهها.
وعند المدخل، بدأت تشعر بالاختناق. نساء يوقفن نشر الغسيل ليتفرجن عليها، رجال يهمسون لبعضهم، فتيات يضحكن ضحكات تعرف جيدًا معناها. لم تسمع الكلمات، لكنها قرأتها في العيون: "ها هي… عادت."
شدت على يد جود وقالت بابتسامة مصطنعة:
– «تمسكي بي يا أميرتي.»
ابتسمت جود دون أن تفهم، وهنا قررت ليان أن تحميها من كل هذا العالم، حتى لو احترقت هي في الطريق.
توقفت أمام بيت أمينة، بيت قديم تحيطه أشجار الزيتون، جدرانه مغطاة بطلاء أبيض باهت، وبابه الخشبي يعكس تاريخًا طويلًا.
طرقت الباب، وفتحته أمينة… بوجه هدهده الزمن، لكنه لا يزال يحتفظ بابتسامة دافئة. عيناها امتلأتا بالدموع وهي تقول:
– «ليان… يا الله! أخيرًا.»
عانقتها بقوة، عناق لم يكن مجرد ترحيب، بل كان اعتذارًا طويلًا عن كل الغياب.
جود كانت تراقب المشهد بعينين واسعتين، حتى جذبتها أمينة من يدها وقالت:
– «تعالي يا جميلة… عندي لك مفاجأة.»
قادتها إلى الفناء، حيث قطة بيضاء صغيرة تلعب تحت أشعة الشمس. ركضت جود نحوها وهي تضحك، وبدأت تداعبها بحنان. ليان وقفت تراقب، وقلبها يهمس: "لو أقدر… كنت أهديتك عالمًا كاملًا من القطط والأمان."
لكنها كانت تعرف… هذه الزيارة ليست مجرد لقاء، بل بداية النهاية، وبداية وصية ستسلمها لمن تثق بها أكثر من أي أحد.
Comments