_* كم مرة ادّعيت الصمت، بينما داخلك عاصفة من الصرخات لا تجد من يسمعها؟
*_*هل تساءلت يومًا، هل هذا الواقع حقًا؟ أم أنّنا أسرى لأوهامٍ نسجن فيها أنفسنا*؟
_____________________________________________
*«كنت أقف عند أطراف القرية، أحدّق في الأفق حيث تختفي الشمس خلف التلال الصامتة. الألوان من حولي تتلاشى ببطء، وهواء المساء البارد يحمل رائحة الأرض المبللة بالمطر ممزوجة برائحة أشجار الزيتون القديمة التي تحيط بالقرية.
لا أعلم لماذا جئت إلى هنا. لم أزر هذا المكان من قبل، لكن شيئًا غامضًا دفعني نحوه، كأن هناك صوتًا خفيًا يجذبني إليه. شعرت بغربة خفيفة في صمت المكان، كانت أقرب إلى الصمت الثقيل، كأن القرية تراقبني بهدوء غريب، تنتظر شيئًا لا أعلمه.
سرتُ بهدوء على الطريق الترابي، وأقدامي تغوص قليلاً في الرمل. في البعيد، سمعت صوت مياه، ربما نهر صغير يلتف بين الصخور. بدا لي صوته مطمئنًا، لكن فجأة... صمت كل شيء.
توقفت أنفاسي.
سمعت صوتًا، تنفّسًا خافتًا، أو ربما همسة، لكنها بدت كصرخة مكتومة، تخرج من أعماق الغابة القريبة.
هل كان ذلك حقيقيًا؟ أم أن خيالي بدأ يخدعني؟
قلبي خفق بقوة، لكنني شعرت بشيء داخلي يجبرني على المضي... عليّ أن أعرف، عليّ أن أتأكد بأنني لم أفقد صوابي.
تقدّمت خطوة أخرى نحو مصدر الصوت المرعب، بينما كانت الشمس تسرق الضوء أكثر فأكثر، وتحول كل شيء حولي إلى ظلال متداخلة.
كان الليل يقترب، ومعه أصبح الهدوء أثقل في الجو، كغيمة داكنة تحجب الهواء عن صدري.
في تلك اللحظة، شعرت أن شيئًا ما على وشك أن يبدأ. شيء لم أشبهه من قبل، قادر على أن يبدّل حياتي باكملها، لكنني لم أعلم ما هو.
وقفت هناك في ذلك الصمت المريب، أحاول استجماع شجاعتي رغم تسارع نبضات قلبي.
كنت أعلم أن هذا المكان ليس كباقي الأماكن التي عرفتها، ومع ذلك لم أستطع الهروب، كأن شيئًا غير مرئي يمسك بي ويمنعني من الرجوع.
رفعت عينيّ إلى السماء، حيث بدأت النجوم تلمع بخجل خلف ستار من الغيوم الرقيقة.
تساءلت في داخلي: هل سيأتي الغد كما اعتدت، أم أن هذا الغروب سيحمل شيئًا مختلفًا هذه المرة؟
وبينما أفكر، سمعت مرة أخرى ذاك الصوت الخافت، لكنه كان أقرب، كصرخة مكتومة تتسلل إلى أذني، تخترق صمت الليل.
أغمضت عينيّ محاوِلة التنفس بهدوء، لكن شيئًا في داخلي كان يصرخ أيضًا، صرخة مختبئة منذ زمن بعيد، لم تجد من يسمعها.
شعرت فجأة ببرودة شديدة تسللت عبر عمودي الفقري، كأن الهواء من حولي أصبح ثقيلاً، مليئًا بأسرار لا تريد أن تُكشف.
ارتجفت قدماي، وشعرت بالارض تهوي بي ، أو ربما كان خفقان قلبي يتسارع، مما جعل كل شيء حولي يبدو كأنه يتحرك بسرعة غير مألوفة.
تساءلت إن كنت وحدي فعلًا، أم أن هناك من يراقبني في هذا الظلام المتزايد.
سمعت همسات غير مرئية تخاطبني من بعيد، كلمات غير مفهومة لكنها بدت كنداء خافت.
وقفت عاجزة عن الحركة، أستمع لكل صوت وكل نبضة في قلبي، متمنية أن أخرج من هذا المأزق بسلام.
لكن الغموض كان يحيط بالمكان، وكأن الغروب ليس نهاية النهار، بل بداية لعالم آخر أكثر ظلمة وخوفًا.
مع مرور كل ثانية، كان قلبي ينبض أسرع، وقطرات العرق البارد بللت وجهي.
لم يكن هذا مجرد صوت في الهواء، بل كان صرخة روح محتجزة تطلب النجدة، وكان عليّ أن أعرف كيف أساعدها، أو أُبتلع في هذه الظلال إلى الأبد.
---
تقدمت ببطء نحو الغابة حيث اشتدت الظلال وتداخلت بين أغصان الأشجار المتشابكة. كل خطوة تصدر صدى خافتًا تحت أقدامي، كأن الأرض تحذرني من المضي أكثر.
تذكرت دفتر جدتي الذي حملته معي. أوراقه الصفراء تلمع تحت ضوء القمر الخافت، كلمات متقطعة، رموز غامضة، ورسائل مشفرة تحكي عن سر دفين في هذه القرية. لم تكن مجرد ذكرى عابرة، بل تحذيرًا عميقًا من شيء قديم يلاحقني.
تابعت السير بحذر حتى اقتربت من حافة البئر المهجورة، وسط أوراق الشجر المتساقطة وصمت الليل الخانق. بدا المكان كأنّه معزول عن العالم، يبتلع الأصوات والضوء.
كلما تقدمت.. أصبح الهواء أثقل، ممتلئًا برائحة العفن والرطوبة، والظلام عند فوهة البئر بدا كهاوية لا فرار لها. فتحت الدفتر مجددًا، وقلبت الصفحة المكتوبة بخط جدتي:
"الغروب ليس مجرد وداع، بل بداية لصرخة لا تسمعها إلا القلوب المكسورة."
سمعت خلفي صوت خطوات خافتة. لم أتجرأ على الالتفات.
كان قلبي يكاد ينفجر من الخوف، والصرخة التي سكنت بداخلي بدأت تتحرك، تنتظر أن تُطلق.
ببطء، التفتُّ نحو مصدر الصوت، لكن لم يكن هناك أحد. فقط الظلال التي تتراقص بين الأشجار. ارتعشت يداي، وحاولت أن أهدئ أنفاسي، لكنّها خرجت متقطعة، كأنها تتحدى قلبي الذي ما زال يقرع كطبول الحرب.
شعرت لوهلة أن البئر تبتعد عني رغم قربها، وكأن الأرض نفسها تريد أن تبعدني عن الحقيقة التي بدأت تقترب مني. قفزت أمامي ذبابة سوداء، وصوت أجنحتها كان صدى مزعجاً في هذا السكون الغريب.
فتحت الدفتر على صفحة أخرى، حيث كلمات جدتي تلتقط أنفاسي:
"لا تخشي الظلام، بل خذ حذرك من الصمت الذي يليه. ففي الصمت تكمن الأصوات التي لا تسمعها سوى الأرواح التي لا تزال على حافة الهاوية."
شعرت بثقل الكلمات على صدري، كأنها وصايا مكتوبة بدماء الحكايا القديمة. دفعت نفسي للمضي قدماً.. حتى إذا ما انكشف السر المظلم، أكون مستعدة لمواجهته.
عندما وصلت الى البئر لفتني شيء لامع بين أنقاضه. انحنيت ببطء، ورفعت قطعة زجاجية صغيرة مغطاة بالأتربة. كانت تنعكس عليها خيوط الضوء الخافت كأنها نافذة إلى عالم آخر.
رفعت نظري مرة أخرى، وكانت أنظاري تصادف ظلالاً تتحرك على أطراف الغابة، لكنها تختفي كلما حاولت الاقتراب منها.
شعرت بالخوف يتغلغل في عروقي، لكنه كان نوعًا مختلفًا من الخوف؛ خوف من المجهول، لكنه مدفوع برغبة جامحة في اكتشاف الحقيقة.
وقفتُ للحظة، وأنفاسي تتلاحق بين صدى الظلال والهمسات، وعيناي تتجهان نحو البئر التي لم تعد مجرد فتحة مهجورة، بل كانت بوابة إلى أسرار قديمة لا ينبغي لي معرفتها.
وفجأة، شعرت بشيء يتحرك خلفي... ليس ظلاً، بل وجودًا حقيقيًا.
تلفتُ بسرعة، لكن لا شيء كان هناك سوى الصمت... أو هكذا ظننت.
امتدت يدي المرتجفة نحو حافة البئر... لكن قبل أن تلمسها، شعرت بشيء أشبه بنفَسٍ باردٍ يُلامس وجهي، وكأن أحدهم يزفر من الأعماق.
تراجعت خطوة.
حدّقت إلى الداخل، لكن الظلام كان كثيفاً لدرجة أنني لم أستطع تمييز شيء. ومع هذا… كان هناك صوت.
بكاء.
طفلة تبكي، صوتها مشوّه، كأن الزمن مرّ عليه ألف عام.
تجمدت في مكاني.
حاولت أن أقنع نفسي أن ما أسمعه مجرد صدى... مجرد وهم. لكنّ قلبي رفض الفكرة، وعيناي بقيتا معلقتين في فوهة البئر، كأن شيئًا بداخلي كان يُصرّ على أن هناك شيء ما ينتظرني في الأسفل.
فجأة، اهتز الدفتر بين يدي.
نظرت إليه، فإذا بالكلمات على الصفحة التالية بدأت تظهر تدريجياً، وكأن الحبر يُكتَب أمامي.
ظهرت عبارة واحدة، بخطٍ يشبه خط جدتي لكنّ الحبر كان أحمر:
"لا تنظري للأسفل فإن نظرتِ هذه الصرخة ستصبح صرختكِ!
انحبس نفسي في صدري، وارتجف جسدي بأكمله. شعرت أن شيئًا خلفي يقترب… خطوات خفيفة، لكنها حقيقية.
كنت على وشك أن ألتفت، لكن الصوت القادم من البئر تغيّر.
لم يعد بكاءً.
اصبح ضحكاً....
ضحكة قصيرة، خبيثة، وكأن الطفلة التي كانت تبكي قد تذكّرت فجأة شيئًا مخيفًا… أو أنني أنا من يجب أن أتذكّره.
صرختُ بصوتٍ مكتوم، لكن صوتي لم يخرج كما أردت… وكأن الهواء نفسه بات ثقيلاً، لا يسمح حتى للصوت أن يهرب من حلقي.
التفتُ فجأة.
لا أحد.
لكن البئر خلفي… كانت تصدر صوت خرير ماء، كأنها تنبض بالحياة، أو الموت.
همست لنفسي: "ما هذا المكان؟ من أنتم؟ ولماذا أنا هنا؟"
لم أكن أطلب إجابة… لكنني حصلت على واحدة.
ريشة صغيرة سقطت أمام قدمي. ريشة سوداء، مبتلة، كأنها من جناح مخلوق لا ينتمي لهذا العالم.
ثم… ارتفعت نسمة هواء قوية، تبعتها صرخة!
صرخة حقيقية هذه المرة، عالية، مشوّهة، غارقة في الحقد!
كان كل شيء من حولي يتحوّل…
الليل اصبح أعمق.
الأشجار بدأت تصدر أصواتاً غريبة، وكأنها تتألم.
والبئر… بدأ ينزف.
ينزف شيئًا أسود، كثيف، يزحف خارجها ببطء.
وتيقّنت حينها…
لم أكن أنا من اختار هذا المكان.
هو من اختارني.
تراجعت للخلف، وكنت على وشك السقوط. شعرت بالأرض تحت قدمي وكأنها لم تعد صلبة، كأنني أخطو على جلد ميت ينبض فجأة.
المادة السوداء التي خرجت من البئر كانت تتحرّك… لا، كانت تزحف، وكأنها تملك عقلًا أو رغبة… أو حتى غضبًا.
وقفت هناك، عاجزة عن الحركة، أتأملها وهي تقترب، نقطة بنقطة…
ثم رأيت شيئًا يتحرك من داخل البئر.
يد.
يد صغيرة… لكن أصابعها كانت طويلة بشكل مشوّه، كأنها نبتت بطريقة خاطئة، كأنها تخصّ كائنًا لم يُخلق ليعيش في هذا العالم.
لم تكن فقط تخرج…
بل كانت تبحث.
تبحث عن شيء… أو أحد.
ثم… أمسكت بالحافة.
صوت احتكاك أظافرها على حافة الحجارة أشبه بالصراخ، صوت جعل شعري ينتصب، وصدر قلبي يخفق كأنه سيسقط من بين أضلعي.
وظهرت ملامح وجهها.
لا أستطيع أن أقول إنه وجه فتاة…
كان أقرب لظلٍ يشبه ملامحي…
نعم… ملامحي أنا.
لكن بطريقة مقلوبة.
ابتسامة مقلوبة.
عينان واسعتان، لكن منطفئتان.
كانت تنظر إليّ، بلا رمش، كأنها تنتظر مني أن أتحرّك أولاً.
وهمست، بصوت كأن أحدهم يسحب روحه من حنجرته:
"رجّعيني…"
خطوت إلى الوراء، لكن قدمي علقت بشيء. نظرت بسرعة…
كان الدفتر قد سقط، وفتحه الهواء على صفحة مكتوب فيها:
> "لا تهربي… أنتِ الوحيدة التي تستطيع أن تحبسها مجددًا."
لكنني لا أعرف من هذه
ولا كيف دخلت.
ولا كيف يمكن أن تُحبس.
حاولت أن أسحب قدمي وأتراجع كانت الأرض زلقة، والضباب يلتف من حولي
اليد ما زالت تمتدّ من قلب البئر، مغطاة بالطين، أصابع طويلة نحيلة تُشير إليّ، ثم تتلوّى في الهواء، كأنّها تعزف على أوتار خوفي.
وفجأة…
"ربا..."
تجمّدت.
الصوت خرج واضحًا… من داخل البئر.
كان مألوفًا بطريقة مرعبة.
ليس غريبًا عني تمامًا.
كأنّه صوت أمي… أو نسخة مشوّهة منه.
ثم دوّى صوت تصدّع!
الحجارة المحيطة بالبئر بدأت تتفكك، وانشقّ طرف الأرض تحت قدمي.
صرخت!
قلبي قفز من مكانه، سقطت على الأرض، وشعرت بشيء بارد يلامس كاحلي.
"لا تنظري للأسفل!"
قالها الصوت مجددًا، لكنّه لم يكن صوتًا واحدًا هذه المرة…
بل عشرات الأصوات… متداخلة، متنافرة، تخرج من البئر، من الريح، من بين الأشجار.
صرخت بكل ما أوتيت من صوت، وانطلقت راكضة بلا وعي، لا أعلم كيف… ولا إلى أين.
ركضت… وركضت… حتى تهاوى جسدي عند مدخل البلدة.
وهناك، قبل أن أفقد وعيي تمامًا، لمحتها...
امرأة تقف بقرب الشجرة القديمة…
كانت تشبه جدتي.
لكنها لم تنظر إليّ…
بل إلى البئر.
Comments