الظل الذي لا يُرى
اسمي نُهىٰن… أو هكذا يقولون.
لكنّي لا أذكر يوم مولدي، ولا لون غرفتي حين كنت طفلة، ولا حتى أوّل ضحكة ضحكتها.
كلّ شيءٍ في ذاكرتي يبدأ من يومٍ واحد:
اليوم الذي انتقلت فيه إلى بيت جدّتي شِفرا… في بلدة اسمها فَغْرَاء.
بلدة غارقة في الغبار، الشوارع فيها لا تبتلع الصوت… بل تعيده إليك كأنها تهمس لك:
> «ارجع... ارجع قبل ما تعرف الحقيقة».
جئت إلى فَغْرَاء بعد حادثٍ غريب، لم يخبرني أحد عنه شيئًا. فقط أخبروني أن والديّ "ذهبا"، ولم يسألني أحد إن كنت أريد أن أعلم كيف.
منذ أن وصلت، لا أحد هنا يبتسم.
ولا أحد ينام بعد الساعة الحادية عشرة.
أذكر أول ليلة لي في البيت...
الجدران كانت تتنفّس. نعم، تتنفّس. لا أدري إن كنت أتوهم، لكنّي كنت أسمع صوتًا خافتًا يشبه الشهيق... ثم الزفير... ثم شقشقة مسمار في زاوية السقف.
وجدت جدّتي تنتظرني في المطبخ، ترتّب أوراقًا قديمة، وتهمهم بكلمات لم أفهم منها شيئًا.
قلت لها:
> «جدتي، هل أستطيع أن...»
قاطعتني دون أن ترفع رأسها:
> «نُهىٰن... نامي قبل الساعة 11. مفهوم؟»
صوتها لم يكن حازمًا، بل... خائفًا.
سألتها بهمس:
> «ليه؟»
أجابتني بنظرة سريعة:
> «لأن اللي ما بينام... بينسى.»
ضحكتُ يومها. ظننتها خرافة.
لكن في تلك الليلة... رأيت شيئًا.
---
في حوالي الساعة 11:08 مساءً، كنت في سريري، عاجزة عن النوم.
البيت كله صامت… صمت غير طبيعي، كأن كل الأصوات توقفت باختيارها.
وكنت قد نسيت إغلاق المصباح الصغير بجانب السرير.
مددت يدي لإطفائه… لكن قبل أن ألمسه، رأيت ظلًّا على الجدار.
ظل لا يشبه أي شيء في غرفتي. طويل… نحيف… ومنتصب كأنّه واقف خلفي.
ارتجف قلبي.
استدرت فورًا.
لا أحد.
لكن المصباح انطفأ من تلقاء نفسه.
---
اليوم التالي، استيقظت وأنا أشعر أن هناك شيئًا ناقصًا.
ذهبت إلى المطبخ وسألت جدتي:
> «وين الساعة اللي كنت ألبسها؟ الذهبية؟»
نظرت إليّ مطولًا، ثم همست:
> «أي ساعة؟ ما كان عندك ساعة من الأساس...»
ارتجف جسدي. أقسم أني كنت ألبسها دائمًا. كانت هدية من أمي… أليس كذلك؟
أم… من أبي؟ لا أذكر وجهيهما أصلًا!
---
مرّت الأيام، وكل ليلة، أسمع نفس الصوت بعد الساعة 11:
شهيق... زفير... طرق خفيف خلف الجدار.
وفي الليلة السادسة… حدث شيء غريب.
كنت أرتّب خزانة جدتي، فوجدت صندوقًا قديمًا مغلقًا بقفل صدئ.
فتحتُه بشق الأنفس، ووجدت داخله صورًا كثيرة بالأبيض والأسود.
أغلبها لناس لا أعرفهم. لكن في واحدة... كان هناك شخص واقف خلف جدتي وهي شابة.
شخص طويل. عيونه سوداء تمامًا.
وكُتب خلف الصورة:
> "آيْزار... آخر من بقي مستيقظًا. عام ١٩٧٥"
وشيء داخلي... يقول لي: أنا أعرف هذا الاسم.
بل… أنا رأيته.
---
في الليلة القادمة، لن أنام.
سأبقى مستيقظة حتى 11… 12… وحتى تنتهي الليلة.
سأعرف من هو "آيْزار".
وسأعرف… ماذا يحدث في الليلة رقم صفر.
استيقظتُ وأنا أشعر أن قلبي ليس قلبي.
كأن شيئًا داخلي قد تغيّر في الليلة الماضية… أو ضاع.
ورغم أنني لم أنم سوى ثلاث ساعات، إلا أنني لم أشعر بالتعب.
بل بشيءٍ آخر…
توتر.
كأن الليل لم يغادرني بعد.
دخلت إلى غرفة جدتي، وكانت كعادتها جالسة على الأرض، تمسك مسبحتها وتهمهم بأذكار لا تشبه ما تعلمناه في المدرسة.
> «جدة… بدي أسألك سؤال، وإنتِ لازم تجاوبيني بصراحة.»
لم ترفع عينيها.
> «مين آيْزار؟»
تجمدت يدها.
ثم همست وكأنها تكلم نفسها:
> «آيْزار... آيْزار... اسم لا يجوز ذكره بعد الفجر.»
اقتربتُ منها، وقلت بإصرار:
> «لقيت صورته في صندوقك. كان واقف وراك، ونفسك مكتوب اسمه عالصورة. شو قصته؟ وليش لحد هسا صوته بيرن في أذني وأنا نايمة؟»
أغلقت المسبحة بعنف وقالت:
> «احرقي الصورة.»
> «ليش؟»
> «احرقيها… وإياكِ تفتحي الصندوق مرة ثانية. نُهىٰن، في ناس… مش لازم ينذكروا. وإذا ذُكروا… بيرجعوا.»
---
خرجتُ من الغرفة وأنا أحمل الصورة في جيبي.
لم أحرقها.
بل خبّأتها تحت وسادتي.
ومن ذلك اليوم… بدأت أبحث.
في المكتبة الوحيدة في فَغْرَاء – مكتبة شبه مهجورة، مغبرة، لا يدخلها إلا الغرباء أو المجانين – فتحت الملفات القديمة.
أسماء سكان البلدة، سجلات الوفيات، حتى الصحف الصفراء المهترئة.
لكن…
لا أحد اسمه آيْزار.
كأن الاسم لم يُكتب يومًا.
كأن الصورة نفسها اخترعت هذا الاسم.
---
وفي إحدى الصحف القديمة، وجدت خبراً صغيراً لا يزيد عن سطرين:
> "تم تسجيل حالة اختفاء غريبة لطفل في السادسة من عمره. آخر من رآه قال إنه كان يتحدث مع نفسه… بعد الساعة 11 مساءً."
بدون اسم. بدون عنوان.
لكن بجانبه… كانت هناك علامة مكتوبة بخط اليد:
> «النسيان يبدأ حين تُفتَح العيون… وليس حين تُغمض.»
---
في تلك الليلة، الساعة تقترب من 11:00، وأنا أراقب باب غرفتي المغلق.
الجو ساكن بشكل غير طبيعي، كأن فَغْرَاء تحبس أنفاسها مع كل دقيقة تمر.
وفجأة…
وقع شيء تحت السرير.
تجمدت.
اقتربت ببطء، وانحنيت أنظر.
وكان هناك…
صندوق صغير أسود.
لم يكن هناك في الصباح. لم أره من قبل.
فتحته.
وفي داخله…
ساعة ذهبية.
الساعة التي كنت قد سألت عنها… والتي قالت جدتي إنها لم توجد أصلًا.
لكنها لم تكن كما أتذكرها.
كانت مغطاة بطبقة من الغبار…
ومكتوب على ظهرها بخط محفور:
> «استيقظي، نُهىٰن. بدأ العد التنازلي.»
الساعة الذهبية بيداي… ثقيلة أكثر مما توقعت.
كأنها تحمل وزن الزمن كله… أو لعنة ما تزال تحوم فوقها.
أمسكت بها وأدققتها. عقاربها لا تتحرك، صامتة كجثة.
لكنّ شيئًا في داخلي كان يقول لي:
> "هذه الساعة ليست للزمن، بل للحياة والموت."
جلستُ على سريري، أنظر إليها، وأسمع دقات قلبي تتسارع مع كل ثانية تمر.
رغم أنها لا تدق، شعرت وكأنها تراقبني. تراقب أنفاسي، تحركاتي، وحتى أفكاري.
قررت أن أخرج من الغرفة…
لكن الباب كان مغلقًا بقفل من الداخل!
لم أذكر أني أغلقته.
رفعت صوتي:
> «جدتي! افتحي الباب!»
لم يأتِ أي رد.
حاولت أن أفتح النافذة، لكنّها كانت مغلقة بإحكام.
وبينما أحاول، لاحظت أن الظلال في الغرفة بدأت تتحرك… تتحول… وتتشكل أمامي.
كانت ظلال أشخاص، وجوه مشوهة، عيون بلا حياة، تتلمسني بنظرات باردة.
واحد منهم قال بصوتٍ مبحوح:
> «نُهىٰن… الوقت ينفد. عليكِ أن تختاري:
أن تنامي وتُنسى… أو تبقي مستيقظة… وتعرفي الحقيقة المرعبة.»
شعرت بدوخة… وكأن كل ما أعرفه حتى الآن كان كذبة.
هل جدتي تحاول حمايتي؟ أم تخفي شيئًا أكبر؟
ثم، سمعت صوت خطوات ثقيلة تنزل من السلم…
لكن ليس أحدًا في البيت غيري وجدتي.
هل هناك من يزورني في هذه الساعة؟ أم أنني أصبحت جزءًا من هذا الرعب؟
---
الساعة لا تدق، لكن قلبي لا يكف عن النبض.
ا
كانت الخطوات تقترب ببطء من أعلى الدرج،
صوتها ثقيل، كأن الأرض نفسها تتنهد تحت وطأة كل خطوة.
لم أجرؤ على التنفس،
قلبي يطرق صدري كأنه يريد أن يهرب،
والظلال حولي ترتجف وكأنها تعرف هذا القادم.
ثم ظهر عند باب الغرفة...
كائن عريض القامة، طويل جدًا،
لكن وجهه كان فارغًا... كأنه مرآة سوداء تعكس فراغًا قاتلًا.
وقفت هناك، بلا كلمة، لا عينين، لا فم،
لكنني شعرت بنظراته تخرق روحي.
حاولت الصراخ، لكن الصوت خنق في حلقي،
وحين حاولت الهروب، وجدت قدمي معلقتين بالأرض كأنها تحولت إلى حجر.
اقترب مني،
وهمس بصوتٍ أجش:
"نُهىٰن... الوقت ينفد... إما أن تنامي وتنسى... أو تبقي مستيقظة وتحترق."
بعد أن اختفى الزائر بلا وجه،
ظللتُ واقفةً في مكاني، أنظر إلى الباب الذي أغلق خلفه بصوت خافت كهمس،
لكن قلبي لم يستطع التوقف عن الخفقان.
قررت أن أبحث في كل شيء عن أسرار جدتي شِفرا،
ربما هي الوحيدة التي تعرف حقائق هذه البلدة المشؤومة.
في صباح اليوم التالي، ذهبتُ إلى غرفة الجدّة، لكنّها كانت خاوية.
على الطاولة، وجدت دفترًا قديمًا، صفحاته متآكلة، مكتوب فيه بخط صغير:
> "الليلة رقم صفر ليست مجرد ليلة، بل لعنة تسري في دماء فَغْرَاء.
كل من يُقاوم النوم، يكتشف أن هناك من يعيش في الظلال، من ليس لهم اسم، ولا وجه،
وهم ينتظرون من يُنسى ليأخذوه معهم إلى أرض النسيان."
وضعت يدي على آخر صفحة، فوجدت رسالة مكتوبة بحبر أحمر:
> "نُهىٰن، إذا قرأت هذا، فأنتِ المختارة.
لا تثقي بأحد، خاصة بمن يحمل اسم 'آيْزار'.
هو بوابتهم، وهو سبب كل هذا الألم."
بعد ما قرأت رسالة جدتي، قلبي صار يعصرني خوف وغموض.
لكن في نفس الوقت، كان عندي إحساس غريب بأني مش وحدي.
في اليوم التالي، وأنا أمشي في شوارع فَغْرَاء الموحشة،
لقيت شاب واقف عند الزاوية، عيونه سودا غامقة، وعلامة غريبة على يده اليسرى تشبه رمزًا قديمًا.
نظرت إليه،
وقال بابتسامة نصفها سر ونصفها تهديد:
> "أنتِ نُهىٰن، صح؟"
ترددت للحظة،
لكن الفضول دفعني أقترب وأسأله:
> "مين أنت؟ وكيف تعرف اسمي؟"
ردّ بهدوء:
> "اسمي زالين. جاي من بعيد، وأعرف كل شيء عن الليلة رقم صفر."
جلست مع زالين تحت شجرة قديمة في وسط فَغْرَاء،
وأخرج يده ليُريّني العلامة الغريبة على كفّه.
كانت دائرة معقدة، تلتف حولها خطوط تشبه الأشجار والجذور.
قال بصوت منخفض:
> "هذا هو رمز الظلال.
كل من يحمل هذا الرمز، يستطيع التنقل بين عالمنا وعالم نسيان،
لكنه أيضًا مكبّل بلعنة لا تنتهي."
سألته بقلق:
> "وليش أنت هنا؟ كيف أعرف إني أقدر أثق فيك؟"
ابتسم ابتسامة حزينة:
> "أنا أيضًا كنت ضحية مثلِك، لكنّي حاولت أقاوم.
والآن… أريد أساعدك تفهمي الحقيقة قبل ما تفقدي نفسك."
نظرتُ إلى عينيه، ولاحظت فيه مزيجًا من الألم والأمل.
---
في ظل شجرة فَغْرَاء القديمة، بدأ زالين يسرد قصته:
> "أنا كنت مثل أي شاب في البلدة،
لكن قبل خمس سنوات، في الليلة رقم صفر،
حدث شيء... شيء غريب.
استيقظت لأجد نفسي في عالم موازٍ، عالم النسيان.
هناك، الوقت لا يمضي، والذاكرة تُمحى، والوجوه تختفي.
> قبل أن أتمكن من الهروب، وُضع عليّ هذا الرمز.
هو تذكرة العبور، لكنه أيضًا سجن.
من يحمل الرمز مرتبط بالعالمين، لا يستطيع الهروب، ولا يستطيع النوم.
وعندما يناديك النسيان، تبدأ رحلة النهاية."
نظر إليّ بعيون تلمع بالحزن:
> "أنتِ التالية، نُهىٰن.
وإذا لم تجدي طريقة للهرب، ستصبحين جزءًا من هذا النسيان إلى الأبد."
بعد حديث زالين المرعب، عرفت أن الحل الوحيد للهروب هو إيجاد مفتاح النسيان، قطعة أثرية قديمة مدفونة في مكان ما في فَغْرَاء.
بدأنا نبحث في الأرشيف القديم للمكتبة، حيث وجدت مخطوطة مهترئة تشير إلى "مغارة العتمة"، موقع يُقال إنه مدخل لعالم النسيان.
لكن المغامرة ليست سهلة، فالمغارة محروسة بأسرار وأشباح لا ترحم.
وقبل أن نغادر، جاءت جدتي شِفرا بسرعة، وحذرتنا:
> "لا تذهبوا هناك، فالمغارة ليست للجميع.
هناك من اختفى فيها ولم يعد أبداً."
الفصل العاشر: مغارة العتمة
دخلنا إلى المغارة، والهواء بارد ورطب،
الظلام يحاصرنا من كل جانب، ولا صوت سوى قطرات ماء تسقط على الأرض.
كانت الجدران مغطاة برموز غريبة تضيء بخفة،
تشبه تلك التي على يد زالين،
لكن مع كل خطوة، شعرت بأن شيئًا يراقبنا،
كأن الظلال تتحرك وتتنفس معنا.
في عمق المغارة، وجدنا غرفة صغيرة،
في وسطها صندوق حجري، مرسوم عليه رمز النسيان.
اقتربتُ بيدي المرتجفة، وفتحت الصندوق بحذر.
داخله، كان هناك مفتاح قديم،
لكن عندما لمسته، شعرت بصوت همسات تتسلل إلى عقلي.
قال زالين:
> "هذا هو مفتاحنا، لكن الطريق للخروج لن يكون سهلاً."
حملت المفتاح القديم بيدي، والهمسات في رأسي تزداد قوة.
كانت أصواتًا غير مفهومة، كلمات متقطعة تحكي عن أسرار دفينة.
زاد الشعور بالخوف، لكن زالين قال لي:
> "هذه الهمسات هي صوت النسيان، تحاول تضللك، لكن إذا استمعت لها بتركيز، ستكشف لك الطريق."
مع بزوغ أول خيوط الشمس على فَغْرَاء،
خرجت أنا وزالين إلى الشوارع الخالية، حيث لا تحرك الرياح أوراق الأشجار.
بحثنا عن ظل لا يملك جسدًا،
ظل يظهر بلا مصدر،
ظل يتحرك بحرية في عالم متجمد.
في زقاق مظلم، رأينا شيئًا غريبًا:
ظل طويل، ينعكس على الحائط،
لكنه لم يكن مرتبطًا بأي جسم.
اقتربنا بحذر،
فجأة، همس الصوت ذاته الذي سمعته في المغارة:
> "ابحثا في أعماق النسيان، حيث تختبئ الحقيقة."
ثم تلاشى الظل وكأنه لم يكن موجودًا.
بحوزتنا المفتاح، توجهنا نحو البئر القديم في قلب فَغْرَاء،
حيث يقولون إن بوابة النسيان مخبأة تحت ظلاله.
وقفت أمام الفتحة، شعرت بالبرد يلتف حولي كأفعى،
لكن زالين أمسك يدي بثبات وقال:
> "الآن يبدأ كل شيء، نُهىٰن.
استعدي لمواجهة ما لا يُمكن نسيانه."
نزلنا إلى الأعماق، حيث السكون الكامل،
وعندما وصلنا إلى قاع البئر، وجدنا بابًا حجريًا مزخرفًا برمز النسيان.
وضعت المفتاح في القفل،
وفجأة، انفتح الباب بصرير مخيف، يكشف عن ممر مظلم ممتد نحو المجهول.
دخلنا الممر المظلم،
كل خطوة تأخذنا أعمق في عالم لا يشبه أي شيء عرفته من قبل.
الهواء هنا ثقيل، مشحون بأصوات هامسة،
تتداخل فيها ذكريات مفقودة وصراخ صامت.
في نهاية الممر، وصلنا إلى قاعة ضخمة،
تزين جدرانها نقوش غريبة تتحرك كأنها تنبض بالحياة.
في وسط القاعة، كانت هناك تمثال ضخم لكائن بلا وجه، يشبه الظل الذي رأيناه.
زالين همس:
> "هذا هو حارس النسيان، ومن هنا تبدأ المعركة الحقيقية."
التمثال بلا وجه بدأ يتحرك ببطء،
ظلاله تتوسع في القاعة، تحاصرنا من كل جانب.
زالين رفع يده، وبدأ يرسم رموزًا في الهواء،
تتوهج بضوء أزرق بارد.
قلت له:
> "كيف نحاربه؟"
ابتسم بحزم:
> "بإيماننا وبحفظ ذكرياتنا. النسيان هو السلاح الأقوى لهم، لكن ذكرياتنا هي درعنا."
بدأت أردد أسماء أحبائي، أوجاعي، وأحلامي،
فبدأ الظل يتراجع شيئًا فشيئًا.
ثم، فجأة، سمعنا صوت جدتي من بعيد:
> "نُهىٰن! لا تنسي أن الحكاية لم تنته بعد..."
بعد صوت جدتي، توقف الظل عن الهجوم فجأة،
وتحولت القاعة إلى صمت رهيب.
خرجت من الظلال امرأة مسنة، ترتدي عباءة سوداء،
وجهها مليء بالتجاعيد، لكن عينيها تتلألأ بحكمة وعزيمة.
كانت جدتي شِفرا.
قالت بصوت هادئ:
> "أنا حارسة سر الليلة رقم صفر،
ولمدة أجيال، كنت أحتفظ بالمعرفة لمن يستحقها."
أخرجت من عباءتها كتابًا قديمًا،
وقالت:
> "هذا هو كتاب النسيان، يحتوي على الأسرار التي تحكم هذه اللعنة.
ولكن حذاري، كل صفحة تقرأينها تقربك من الهاوية."
جلست مع جدتي شِفرا في غرفة مظلمة،
وضوء الشموع يتراقص على صفحات الكتاب القديم.
فتحت الصفحة الأولى، وكانت مكتوبة برموز غريبة،
لكن مع مرور الوقت، بدأت الكلمات تظهر بلغة مفهومة.
قرأت بصوت مرتجف:
> "النسيان هو بوابة بين العالمين،
لكل من يرفض النوم في الليلة رقم صفر،
هناك ثمن يُدفع… ذاكرة تُمحى… وحياة تُسرق."
ثم أضافت جدتي:
> "لكن هناك طريقة لكسر اللعنة،
تحتاجين إلى جمع ثلاث قطع من الضوء،
مخفية في أماكن مختلفة داخل فَغْرَاء."
الفصل الثامن عشر: بداية الرحلة
في صباح غائم على فَغْرَاء،
جمعتُ زالين وجدتّي شِفرا، وبدأنا التخطيط للعثور على قطع الضوء الثلاثة.
قالت جدتي:
> "القطعة الأولى مخفية في كهف الرياح،
حيث تلتقي الأصوات الغامضة مع صدى الزمن."
خرجنا نحو الكهف،
وسط أصوات الرياح التي تشبه الهمسات،
شعرت أن كل خطوة تأخذني بعيدًا عن عالمي المعروف.
زالين نظر إليّ قائلاً:
> "نحتاج إلى الشجاعة، نُهىٰن، لأن الطريق لن يكون سهلاً."
دخلنا الكهف،
صوت الرياح يعوي كأنه ينادي أرواح ضائعة.
الجدران تلمع برموز قديمة، وكل خطوة ترجع صدى همسٍ غامض.
فجأة، رأينا صندوقًا حجريًا،
لكن فوقه كان هناك لغز محفور:
> "من لا يخاف الظلام،
هو من يستحق الضوء."
بدأنا نحاول حل اللغز،
ولكن ظل عملاق بدأ يقترب منا،
وجهيه مغطى بضباب كثيف، لا نعرف إن كان صديقًا أم عدوًا.
اقترب الظل العملاق،
قلبي يدق بسرعة، لكني تذكرت كلمات جدتي:
> "الشجاعة هي الضوء الذي يهزم الظلام."
رفعت يدي نحو الظل،
وبدأت أردد اللغز بصوت مرتفع:
> "من لا يخاف الظلام،
هو من يستحق الضوء."
فجأة، بدأ الظل يتلاشى ببطء،
وظهر الصندوق الحجري مفتوحًا،
داخله قطعة من الضوء تتلألأ بألوان قوس قزح.
أمسكت القطعة،
وأحسست بقوة غريبة تنتقل إليّ.
بعدما حصلنا على القطعة الأولى من الضوء،
بدأت ذكريات غامضة تزحف إلى ذهني،
صور من طفولتي التي لم أكن أذكرها من قبل.
رأيت نفسي صغيرة، تلعب في حديقة مجهولة،
وفجأة، ظهر ظلٌ غامض يحاول أن يسرق ضحكتي.
زالين قال:
> "هذه ذكرياتك المحمية، نُهىٰن،
النسيان يحاول أن يمحو كل شيء، لكن قوتك تكمن في تذكرك."
بدأنا نبحث عن القطعة الثانية،
ولكن هذه المرة، في مكان أعمق وأخطر.
الفصل الثاني والعشرون: أعماق الغابة السوداء
توجهنا إلى الغابة السوداء،
مكان مظلم وكثيف الأشجار، حيث لا تدخل الشمس بسهولة.
قالت جدتي شِفرا:
> "القطعة الثانية مخفية هناك، بين جذور الأشجار القديمة،
لكن الغابة ليست فقط مكانًا، بل كائن حي يحمي أسراره."
دخلنا الغابة،
والهواء يصبح ثقيلاً مع كل خطوة،
وصوت الأوراق تحت أقدامنا يبدو كأنها تهمس بأسرار مظلمة.
شعرت بأن شيئًا يتبعنا،
لكننا لم نجرؤ على الالتفات.
كل خطوة في الغابة تزيد من توتري،
حتى بدأت أسمع همسات غامضة تخرج من بين الأشجار.
أصوات كلمات غير واضحة، لكنها تنقل شعورًا بالتحذير.
زالين أمسك يدي بقوة وقال:
> "لا تستسلمي للخوف، نُهىٰن. هذه الغابة تغوي الكثيرين وتخطفهم."
فجأة، رأينا ضوءًا خافتًا بين الأشجار،
اقتربنا فوجدنا تمثالًا حجريًا عليه نقش:
> "من يملك الشجاعة، يستحق القطعة."
لكن حين حاولنا الاقتراب، بدأت الأرض تهتز من تحتنا،
وأصوات غريبة تملأ المكان.
ارتفعت الأرض تحت أقدامنا،
فتحت الغابة فمها الأسود، وكأنها كائن حي مستعد للابتلاع.
خرج من الظلام مخلوق ضخم،
بعيون حمراء تتوهج في الظلام، وجسم مغطى بأشواك سوداء.
زالين سحب رمز الظلال من يده، وصرخ:
> "استعدي، نُهىٰن! هذه معركة ليست فقط من أجل القطعة، بل من أجل حياتنا!"
بدأنا في القتال،
كل ضربة تترك أثرًا، وكل لحظة كانت تحديًا لأرواحنا.
وفي اللحظة التي ظننا أننا سننهزم فيها،
سمعت صوت جدتي يردد:
> "الشجاعة هي الضوء... والضوء هو الحياة."
بعد المعركة في قلب الغابة،
وجدنا كهفًا صغيرًا مخفيًا بين الأشجار،
وفي داخله صندوق خشبي قديم.
فتحنا الصندوق بحذر،
ووجدنا رسالة مكتوبة بحبر باهت،
كانت من جدتي شِفرا إلى نُهىٰن.
قالت الرسالة:
> "عزيزتي نُهىٰن،
كل ما حدث ليس إلا بداية الطريق،
أنتِ تحملين عبء أجيال، ولا بد أن تعرفي الحقيقة كاملة…
لكن احذري، فهناك من يسعى لأن يمنعك."
قرأت الرسالة مرارًا،
وكل كلمة منها كانت تضرب في قلبي كالسهم.
جدتي كشفت لي أن لعنة الليلة رقم صفر
مرتبطة بعائلتنا منذ أجيال،
وأنني الوحيدة القادرة على إنهاء هذا الألم.
في الرسالة، كانت تعليمات واضحة:
> "لإنهاء اللعنة،
يجب أن تجمّعي القطع الثلاثة من الضوء،
وتعيدي ترتيبها على مذبح قديم داخل معبد النسيان،
هناك حيث بدأ كل شيء."
زاد شعوري بالمسؤولية،
لكن أيضًا بالخوف من مواجهة المجهول.
انطلقنا في الصباح الباكر،
نسير عبر وديان مظلمة وجبال وعرة،
كل خطوة تأخذنا أقرب إلى معبد النسيان،
المكان الذي يخبئ نهايتنا أو خلاصنا.
قالت جدتي شِفرا وهي تمسك عصاها القديمة:
> "المعبد محاط بفخاخ وقوى لا يمكن التنبؤ بها،
وعليكِ يا نُهىٰن أن تكوني مستعدة لكل شيء."
بين الأشجار، سمعنا همسات الرياح،
كأنها تحذرنا أو ترشدنا.
زالين سحب الرمز من يده وقال:
> "معًا، لن نسمح للنسيان أن يبتلعنا."
دخلنا المعبد،
جدرانه مغطاة بنقوش قديمة تحكي قصص لعنة النسيان.
الهواء كان ثقيلاً، وصرير خطواتنا يتردد بين القاعات.
في وسط المعبد، وجدنا مذبحًا حجرًا،
عليه فتحات مخصصة لوضع قطع الضوء الثلاث.
وضعت القطعة الأولى، ثم الثانية، وأخيرًا الثالثة.
فجأة، بدأ المعبد يهتز،
وانفتحت بوابة ضوء ساطعة في الجدار الخلفي.
لكن فجأة، ظهر ظلٌ ضخم يعيق طريقنا،
كان وجهه غير واضح، لكنه يحمل قوة هائلة.
قال زالين:
> "هذه المعركة الأخيرة، نُهىٰن... استعدي!"
الظل الضخم تقدم ببطء،
رغم غموض وجهه، شعرت ببرودة تخترق عظامي.
زالين أمسك بيدي وقال:
> "لا تخافي، نُهىٰن. قوتنا في وحدتنا."
بدأت المعركة،
ظل يهاجمنا بقوة لا تُصدق،
لكننا تمسكنا ببعضنا البعض،
ورددنا كلمات القوة من كتاب النسيان.
مع كل كلمة، بدأ الظل يتراجع،
حتى تلاشى بالكامل في ضوء المعبد.
ثم انطفأ الضوء،
وحلّ صمت عميق.
بعد تلاشي الظل،
انطفأت أنوار المعبد، وعمّ السلام في المكان.
وضعتُ قطع الضوء على المذبح مرة أخرى،
وشعرت بطاقة هائلة تتدفق من داخلي، تملأ قلبي بالقوة والأمل.
قالت جدتي شِفرا بابتسامة حنونة:
> "لقد أنهيتِ اللعنة يا نُهىٰن،
لكن الحكاية لا تنتهي هنا،
فكل نهاية هي بداية جديدة."
خرجنا من المعبد،
والشمس تشرق لأول مرة منذ زمن على فَغْرَاء،
والهواء أصبح أخف، والظلال تلاشت.
وفي قلبي، عرفت أن قصتنا قد تكون قد انتهت،
لكن هناك حكايات أخرى تنتظر من يكتشفها
ركزت وأغلقت عيني، وبدأت الكلمات تتوضح تدريجياً:
> "عندما تشرق الشمس في فغراء،
ابحثي عن الظل الذي لا يمتلك جسدًا،
هناك تكمن الحقيقة."
فتحت عيني بسرعة، ونظرت إلى زالين الذي كان يراقبني بترقب.
Comments