"اللحظة التي ارتجف لها التاريخ… وماتت قبل أن تُروى"
"حين انطفأت، لم ينتبه الضوء"
لم يكن أحد بانتظار موتها.
حتى الموت نفسه بدا متردّدًا، واقفًا على العتبة كغريبٍ لا يملك الجرأة على الدخول.
لكنها، هي، لم تطلب شيئًا.
لم تبكِ. لم تكتب رسالة.
كل ما فعلته… أنها نامت دون أن تخلع اسمها عن ذاكرة أحد.
على السرير المائل للبرد،
كانت عيناها مفتوحتين بالكاد، كأنها لا تريد أن تغلق الباب الأخير بين قلبها والعالم.
في يدها اليسرى، ورقة لم تُكتب بعد.
وفي يدها اليمنى، خاتم يشبه وعدًا تراجع في اللحظة الأخيرة.
لم تكن البطلة التي يصطفّ لها الناس بالبكاء،
كانت تلك التي تمشي في الخلف،
تُحبّ في صمت، وتخسر في صمت، وتموت في صمت…
ويكتشف الآخرون متأخّرين أنهم أضاعوا حكاية كانت ستجعل التاريخ يرتجف.
"حين لم تكن له، أصبحت ذاكرته"
هو لا يعرف اسمها.
ولا متى ماتت.
ولا لماذا، بعد كل هذا السكون، انزرعت صورتها في عينه وهو في العالم الذي لا يعود منه أحد ليتذكّر.
كلّ شيء حوله رماديّ:
الممرات، الخطى، الأرواح التي تمشي دون ظلّ،
الزمن هنا لا يتحرّك… لكنه لا يتوقّف أيضًا.
إنه ساكن كالتجاهل.
لكنه — في تلك الليلة — رأى شيئًا يشبه الضوء.
لم يكن نورًا، بل ومضة ذاكرة.
امرأة تسير في المطر، تخفي وجهها بورقة، تُمسكها بيدٍ خائفة.
ثم ترتجف.
وفي صوت لا يسمعه أحد سواه، همست:
> "أنا لست من غادَر… أنا من تُركت في المنتصف."
تجمّد.
لم يكن يُسمح للرُسل في هذا العالم أن يتورّطوا.
لكنها لم تكن نداءً، ولا طيفًا…
كانت ذكرى دخلت في دمه دون إذن.
منذ تلك اللحظة، بدأ يرى أجزاءها.
وجعها.
الرسالة التي لم تُكتَب.
اليد التي انتظرت ولم تُمسك
__
"حين تبدأ القصة من موتٍ ليس لك"
لم يكن معتادًا أن يرى الألوان.
في هذا العالم السفلي،
الأرواح تهمس دون لغة،
والألم يُحمل في الأكتاف لا في العيون.
لكن في اليوم التالي لظهورها،
رأى لونًا.
أزرق.
باهتًا، كأنه انغسل بالحزن.
يتدلّى من خيطٍ خفيّ، يربط بين قلبه وصوتٍ لم ينطق باسمه يومًا.
ثم رأى... نافذة.
نافذة من ذاكرتها —
وهو، دون أن يفهم، صار يطلّ منها على حياتها كما يُطلّ المسجون على السماء.
✧ فتاة في السادسة عشر،تحبس دموعها عند باب المدرسة، لأن أحدًا لم يأتِ ليأخذها.
✧ امرأة في عمر المواعدة والاستمتاع،تدفن حُبًا كي لا تُربك حياة مَن أحبّته.
✧ ثم… في عامها الخامس والعشرين،تضحّي بشيءٍ لا يعرفه بعد.تُسلّم شيئًا للعالم، وتخسر كل شيء في المقابل.
كل ذكرى…كل ومضة…
كانت تلتصق به من الداخل، حتى صار يخاف أن يغمض عينيه دون أن يحلم بها.
وهنا… سمع الهمس من بعيد:
> "إذا لم تُروى… لن تُغفر."
✦ ماذا يعني هذا له؟
إن لم يجد الحقيقة، لن تغفر هي.
وإن لم يغفر لها أحد، ستتلاشى من الوجود — للأبد.
ومن هنا يبدأ سعيه…
في عالمٍ بلا زمن، بلا ذاكرةٍ تخصّه،
لكنه أصبح رسولًا لقصّتها القصيرة .
"أشياء لا تُقال... لكنها تُدفن"
في هذا العالم، لا يُطلب منك أن تُقسم،ولا أن ترفع يدك لتُعلن الولاء.
يكفي أن تسكت…وأن تفهم متى تصمت.
اسمي ليس مهمًا.
عمري ستة وعشرون عامًا، وقد عرفت منذ عامي العشرين أن الحياة لا تُروى كما نحب، بل كما تبقى بعد أن يُمحى كل شيء.
أنا لست قاتلًا، ولا سارقًا،
لكني على دراية بأسماء القتلة، ومواعيد السرقات، وأماكن الجثث التي لا تُبلّغ عنها.
عملي؟
أصل الخيوط المقطوعة،أُنسي الرائحة من المكان،أُنقّي الصورة قبل أن تصل إلى أحد.
أنا — ببساطة — الرجل الذي يمسح الأثر.
لكن في تلك الليلة…وصلني أثرٌ لا يمحى.
امرأة، ماتت منذ أسبوع.لا اسم معروف. لا قضية مرفوعة.
مجرد "انتحار" آخر في هامش نشرة الأخبار.
لكنها تركت شيئًا باسمي.
صوتا هامسا في داخلي، صوت امرأة فاقدة لروحها
> "أنت الوحيد الذي رأى، ولم يتظاهر بأنه أعمى."
لم أعرفها جيدًا.رأيتها مرة، مرتين…وربما أحببت في صمتها شيئًا لم أجرؤ على تسميته.
صوتها المُسجَّل، والأسرار التي حملتها…كانت أكبر من أن تُحرق،
وأثقل من أن تُنسى.
ومنذ تلك الليلة،لم أعد ممسوح الأثر.بل صرت أنا… أثرًا يُطارِده الجميع.
حقيقة كوني احمل تاريخ عالم لا يرحم.
Comments