الفصل الرابع:
لم تكن تلك الابتسامة التي ارتسمت على وجهي في نهاية الليلة الماضية انتصارًا… بل كانت بداية الانهيار. كان الباب الذي وقف عنده الظل الطويل لا يزال أمامي، مغلقًا كما كان، لكني كنت أعلم أن عبوره هذه المرة لن يكون مجرد انتقال بين غرف، بل بين نسختين مني… واحدة كنت أظن أنني أعرفها، وأخرى كانت تراقبني من الأعماق منذ سنين.
تقدمت بخطوات بطيئة، تكاد أصواتها تضيع وسط الصمت الكثيف الذي كان يملأ المكان. مددت يدي نحو مقبض الباب، فتوقعت أن أجد برودته المعتادة، لكن يدي اصطدمت بخشونة معدنية ساخنة… وكأن الباب تنفّس للتو. لحظة ملامستي له، انفتح فجأة دون صوت، كاشفًا عن ممر طويل مغطى بضوء باهت يأتي من مصابيح متدلية من السقف، تهتز قليلًا كأنها على وشك الانطفاء.
الممر بدا وكأنه يبتلعني مع كل خطوة أقترب فيها، وفي منتصفه، لاحظت وجود خطوط داكنة على الأرض… كانت آثار أقدام بشرية، لكنها متجهة في الاتجاهين، ذهابًا وإيابًا، وفي بعض المواضع، كانت الأقدام تبدو مشوشة، كما لو أن شخصًا ما وقف في مكانه طويلًا قبل أن يواصل السير.
على الجدار الأيسر، كانت هناك لوحات معلقة، كل لوحة تعرض صورة ضبابية لوجهي… في أوضاع لم أتذكر أني كنت عليها من قبل. في إحداها كنت جالسة على سريري أقرأ، في أخرى كنت أنظر من النافذة، وفي ثالثة… كنت نائمة، لكن عيناي مفتوحتان.
مددت يدي نحو إحدى اللوحات، لكن ما إن لمستها حتى تغيرت الصورة فجأة إلى مشهد لطفلة… ترتدي فستانًا أبيض، تقف في منتصف غرفة مظلمة، ووراءها ظل أطول منها بمرتين، يقترب ببطء. عرفت تلك الطفلة فورًا… كانت أنا.
سحبت يدي بسرعة، وأدركت أنني ما عدت أتحكم بخطواتي، وكأن الممر هو من يقودني. وصلت إلى نهايته، وهناك كان باب آخر، لكن هذه المرة لم يكن مغلقًا تمامًا، بل ترك مفتوحًا بمقدار كف اليد، يتسرب منه ضوء أحمر نابض. دفعت الباب بهدوء ودخلت.
كانت الغرفة خالية إلا من كرسي معدني في المنتصف، مواجه لجدار مغطى بمرايا متشققة. على الكرسي، كان هناك دفتر أسود صغير. التقطته وفتحته… لم يكن فيه سوى صفحة واحدة مكتوبة بخط سريع:
> "إن جلست على الكرسي، ستتذكرين من كان يراقبك. لكن تذكري… بعض الأبواب حين تفتح لا تُغلق أبدًا."
ترددت للحظة، لكن شيئًا داخلي دفعني للجلوس. ما إن لامست ظهري مسند الكرسي، حتى انطفأ الضوء الأحمر وحل مكانه ظلام دامس، وتدفق إلى رأسي وميض سريع من الصور والمشاهد.
رأيت نفسي في ممر ضيق، أركض وأنا ألهث، وخلفي أصوات خطوات ثقيلة تقترب. رأيت بابًا أبيض على يساري، فتحته ودخلت… لأجد نفسي في غرفة مراقبة مليئة بالشاشات، وكل شاشة تعرض زاوية من حياتي. على إحدى الشاشات رأيت طفلة تبكي في ركن غرفة، وعلى أخرى رأيت نفسي أكتب رسالة وأضعها تحت الحجر في الحديقة الخلفية، لكن… في زاوية الشاشة، كان هناك وجه يراقب، نصفه مغطى بقناع أسود.
الصوت نفسه الذي سمعته ليلة الأمس عاد، أعمق هذه المرة، يهمس من داخل أذني:
– "اقتربي أكثر، لمار… أنتِ كنتِ دائمًا أقرب مما تظنين."
حاولت النهوض من الكرسي، لكن يدي التصقت بالمساند الجانبية. فجأة، انكسر زجاج المرايا الأمامية ببطء، كاشفًا عن فراغ أسود خلفه. ومن ذلك الفراغ، بدأت تخرج يد، طويلة، بيضاء كأنها مصنوعة من الشمع، تتحرك ببطء نحو وجهي.
لمست أصابعي أولًا… كانت باردة بشكل غير طبيعي. ثم ارتفعت إلى وجهي، ومسحت على خدي، قبل أن تتراجع إلى الظلام. وفي اللحظة التي سحبت فيها يدها بالكامل، ظهر وجه خلف الزجاج. لم يكن كامل الملامح… لكن العينين كانتا واضحتين تمامًا.
عينان بلون أسود داكن، بلا بياض، تتسعان كلما نظرت إليهما. شعرت بضغط في صدري، وكأنهما لا تكتفيان بالنظر إليّ… بل تنظران إلى داخلي.
ثم، بكلمة واحدة، كسر الصمت:
– "أخيرًا…"
عندها، أطلق الكرسي سراح يدي وقدمي، وكأن الغرفة سمحت لي بالتحرك مجددًا. وقفت ببطء، لكنني وجدت أن الباب الذي دخلت منه قد اختفى، وحل مكانه ممر جديد، أطول، أضيق، مضاء بضوء أبيض قاسٍ.
في وسط الممر، كان هناك شيء على الأرض… ظرف أسود. التقطته، فتحته، ووجدت داخله ورقة عليها كتابة واحدة:
> "انعكاسك… ليس ملكك بعد الآن."
رفعت عيني نحو الجدار المقابل، لأجد مرآة صغيرة معلقة، وفيها رأيت نفسي… لكن وجهي لم يكن يتحرك كما أفعل. في المرآة، كنت أبتسم، بينما في الواقع… لم أكن.
ابتسمت صورتي أكثر، ثم رفعت يدها ولوّحت لي… قبل أن تدير ظهرها وتختفي من داخل المرآة، تاركة انعكاسي فارغًا تمامًا.
لم أتحرك. لم أتنفس. فقط أدركت شيئًا واحدًا: أنا الآن في عالمه، ولست في عالمي.
ومن نهاية الممر، جاء صوته مجددًا، أقرب هذه المرة، أكثر وضوحًا:
– "أراكِ، لمار… وأنتِ لا ترين شيئًا."
كان هذا أول اعتراف حقيقي منه… وأول لحظة أدركت فيها أنني لن أخرج من هذه اللعبة كما كنت.
تقدمتُ نحو نهاية الممر بخطوات مترددة، وكلما اقتربت من مصدر الصوت، كان الجدار من حولي يتغير. لم يعد أبيضًا ثابتًا، بل صار شفافًا على نحو مخيف، كاشفًا عن غرف جانبية صغيرة، كل غرفة تحتوي على نسخة مني. بعضها جالسة تحدق في الجدار، وبعضها تنام وهي مقيدة، وأخرى تبكي بصمت. كان الأمر أشبه بالسير وسط متحف مليء بصوري المسروقة.
مددت يدي نحو الزجاج، وللحظة… إحدى النسخ رفعت رأسها ونظرت إليّ مباشرة. ابتسمت. ثم همست بكلمة واحدة، ورأيت شفتاها تتحركان ببطء: "اركضي."
شعرت بقشعريرة تسري في ظهري، لكنني لم أركض. تابعت السير حتى وجدت نفسي أمام بوابة معدنية ضخمة، عليها نفس الرقم الذي صار يطاردني في كل مكان: 108. الرقم كان محفورًا بعمق، لكن هذه المرة كان أسفله عبارة أخرى لم أرها من قبل: "مدخل الحقيقة."
لمست البوابة، فانفتحت ببطء لتكشف عن غرفة واسعة، أرضيتها من الزجاج، وتحتها… ممرات متشابكة مثل شبكة العنكبوت، وفي كل ممر كانت هناك كاميرات متجهة نحو الأعلى، نحوي.
في منتصف الغرفة، كان هناك كرسي خشبي بسيط، لكن الغريب أنه كان محاطًا بمرآة دائرية كاملة، وكأنك إذا جلست عليه ستجد نفسك محاطًا بانعكاساتك من كل زاوية. على الكرسي، كان هناك ظرف أسود جديد.
فتحت الظرف بحذر، وقرأت:
> "اجلسي، وستري ما لم تريه أبدًا."
جلست. وفور ملامستي للمقعد، انطفأت الأضواء تمامًا، وبقيت محاطة بظلام دامس. ثم فجأة، أضاءت المرآة من حولي، لكنها لم تعرض صورتي هذه المرة… بل عرضت مشاهد متفرقة من حياتي، لكن بترتيب عكسي، من لحظة دخولي هذه المنشأة، إلى طفولتي، إلى لحظة كنت أركض في حديقة مظلمة.
لكن ما كان صادمًا حقًا… أن كل هذه المشاهد كانت مصورة من زاوية واحدة، وكأن هناك كاميرا تتبعني منذ ولادتي.
ثم انقلبت المشاهد فجأة إلى صور لم أرها من قبل: رجل يجلس على كرسي مماثل، يرتدي قناعًا أسود يخفي ملامحه تمامًا، أمامه طاولة عليها دفتر أسود وقلم. يكتب شيئًا ببطء، ثم يرفع رأسه نحو الكاميرا… ويشير إليّ مباشرة.
سمعت صوته، واضحًا هذه المرة، بلا تشويش:
– "كنتِ دائمًا هنا، لمار… حتى قبل أن تعرفي أنني أنا."
قبل أن أستوعب ما يقوله، تغير المشهد من جديد، وصار وجهه يقترب أكثر فأكثر، حتى غطى الشاشة بالكامل. وفي لحظة خاطفة، رفع القناع عن نصف وجهه…
رأيت عينًا واحدة. عين أعرفها. عين كنت أراها في كل مرة كنت أنظر في المرآة.
عين تشبه عيني تمامًا.
ارتجف جسدي. لم يكن يراقبني شخص غريب… كان يراقبني "أنا". أو على الأقل… نسخة مني.
الغرفة بدأت تدور من حولي، والأرضية الزجاجية تحت قدمي تحولت فجأة إلى شاشة عملاقة، تعرض مشاهد لي، لكن ليس من الماضي… من المستقبل. رأيت نفسي أركض في نفس الممرات التي أسير فيها الآن، أطرق أبوابًا مغلقة، أصرخ بلا صوت، بينما ظل طويل يتبعني دائمًا.
صوت آخر، أعمق، بدأ يملأ الغرفة:
– "لن تهربي من نفسك، لمار… المراقب كان داخلك طوال الوقت."
ارتفعت الإضاءة فجأة، وكشفت أنني لم أكن وحيدة. حولي، في كل اتجاه، كان هناك أشخاص يقفون في صمت، يرتدون أقنعة بيضاء بلا ملامح. كل واحد منهم كان يحمل كاميرا، موجهة نحوي.
تراجعوا خطوة واحدة للخلف في نفس اللحظة، ثم انقسموا إلى ممرين جانبيين، كاشفين عن شخصية كانت تقف خلفهم. الشخص الوحيد بلا قناع.
لم يتحرك. لم يتكلم. فقط ابتسم ابتسامة باردة.
خطوت نحوه، لكن الأرضية الزجاجية بيننا تشققت فجأة، وبدأت تتهاوى إلى أسفل، كاشفة عن فراغ أسود بلا نهاية. توقفت، أنظر إليه، بينما كان يرفع شيئًا في يده… الكاميرا التي كنت أظن أنني وحدي من أملكها.
ضغط زرًا على جانبها، وعرضت الشاشة الصغيرة صورتي… جالسة على الكرسي الذي أجلس عليه الآن.
ابتسم مجددًا، ثم قال:
– "الآن… عرفتِ من أنا."
لكن قبل أن أفتح فمي، انطفأت الغرفة بالكامل، وغرقت في الظلام.
إنتهى الفصل
Comments