تحت الركام
انشقّ السكون كأن السماء نفسها صرخت من الألم، دويّ انفجارٍ مزق الهواء، فتطاير الركام على وجوه الناس. التفت الحطام كأنه يد غاضبة. لم يكن أحد يعرف من قُتل أو من نجا. فقط العيون... كانت العيون وحدها هي الشاهدة.
في مكان رمادي اللون، كأن الحياة هجرت المدينة منذ أعوام، وتركت الأجساد تسكنها على غير هدى.
طفلة خرجت من البيت الذي كان مأوى لعائلة صغيرة، صار حفرةً يتصاعد منها الدخان، كأنه مدخنة من جهنم. وقفت على قدميها المرتجفتين، تنظر من حولها بلا دموع، في مكان آخر كان الناس يبيعون ويشترون، يضحكون، يحاولون نسيان ما يُسمى بالحرب.
وفي شارع جانبي، بعيدًا عن الانفجار، كانت أقدام الجنود تحدث صدى على أرضٍ ترتجف خوفًا. يُمسك رجلٌ بأطفاله الأربعة، لم يبهت لدمه المسفوك، لم يكن الخوف على نفسه، بل على من تركهم خلفه. اخذه جندي صغير من النافذة، قفز إليه بيده في محاولة يائسة لمسح قلب طفله. لكن السلاسل كانت أسرع من الحب.
سُلب الأب من أطفاله كما تُسلب الحياة من صدر جريح، لا محاكم، لا فرصة للكلام، فقط قرار صادر من فوق، من طاولة لا تعرف الرحمة، بل تعرف مصلحة الملك فقط. الجيش لم يعد يُجدي، بل بدأ يُطبق القبض على عنقه.
عيون الطفلة التي رأت، ما زالت تتحقق في الفراغ. كانت تعرف أن هذا ليس الانفجار الأول... لكنه حتمًا لن يكون الأخير. وفي الجانب الآخر ،
لم يُكتب عن الحادث شيء.
لا صحيفة تناولت الخبر، لا جريدة نطقت بالدم، كأن البيت الذي قُصف وبه الأرواح لم يكن موجودًا من الأساس.
الصحف امتلأت بصور الملك، عناوين تتغنى بعظمته، مقالات تمجّد رحمة يده التي «تطعم الجياع»… بخبزٍ يابس لا يصلح حتى للحيوانات الضالة.
وفي ركنٍ بعيد من البلدة، جلس رجلٌ نحيل، على مقعد خشبي متآكل، إلى جواره كلبه الأليف
يمسك بالصحيفة بيدٍ مرتعشة، يقرأ في صمتٍ موجع.
قال بصوتٍ منخفض يكاد يُسمع:
«لا يكتبون إلا عن الملك... الملك الذي لم نعرف في عصره إلا الحرب، والفساد، والقتل من أجل البقاء».
ثم ألقى الصحيفة جانبًا، وسحق سيجارته أسفل قدمه النحيلة.
في عينيه ظلال تعب لا يشبه النوم، وملامح حزنٍ مقيم، كأن المرض ذاته خجل أن يفارقه .
و في زقاقٍ ضيّق، بعيدًا عن الأعين الرحيمة، كان صبيٌّ صغير لا يتجاوز العاشرة، يضم إلى صدره قطعة خبزٍ يابسة كما لو أنها كنزٌ لا يُقدّر بثمن.
أحاط به ثلاثة شبابٍ غلاظ، عيونهم جائعة، وقلوبهم كأنها نُزعت واستُبدلت بالحجر.
قال أحدهم:
"أعطنا هذا الخبر "
تراجع الصبي خطوة. صمت. لم يتوسل، فقط ضم الخبز أكثر، كما لو أنه يحتمي به من قسوة العالم.
لكن الضربات هبطت عليه كالمطر.
ركلاتٌ فى بطنه، ضرباتٌ على رأسه، وسيل من الشتائم لا يفهم منها شيئًا سوى: "ليس من حقك أن تأكله أو تعيش ".
كانت ملابسه ممزقة، وجهه مغطى بالغبار والدم.
وحين أخرج أحدهم سكينًا صغيرة صدئة، لم يقاوم.
رفع الصبي رأسه قليلًا، كأنه يُسلّم أمره للسماء.
ثم سقطت السكين.
وانطلقت صرخة…
صرخة واحدة، امتزج فيها الألم بالمفاجأة بالخوف.
وبعدها… صمت.
مات الفتى، لا لشيء، إلا لأنه أراد أن يأكل.
أراد فقط أن يقوى جسده الصغير ليعمل ويُعين أسرته.
سقط جسده في الركن كحزمة قش، وقطعة الخبز اليابس بجواره
لم يأكلها، ولم يتركها.
ولم يلتفت أحد .
"في عالم لا يعرف الرحمة و يدان فيه الخبز كجريمة هناك عيون تري كل شئ لكنها تكتفي بالصمت "
10تم تحديث
Comments
Norseen Education
الرواية جميلة حقا 🌹 استمري ✨
2025-06-19
0