اثيريا الظل المتوهج

اثيريا الظل المتوهج

اثيريا الظل المتوهج

تسلل شمس الظهيرة الخجولة من بين فتحات الستائر، لتكشف عن فوضى غرفة "تميم" المعتادة. خمسة وعشرون عامًا مرت من عمره، انتهت للتو بست سنوات عجاف في كلية الحقوق، وحلم لم يجد له مكانًا على أرض الواقع. شهادة جامعية عُلقت على الحائط كشاهد صامت على جهد ضائع، وبطالة تمتص الأمل يومًا بعد يوم. "عاطل"، كانت الكلمة تتردد في رأسه كطنين مزعج. كيف يمكن لقلبٍ أن ينبض بالحب، حينما يخفق باليأس أولًا؟

نهض تميم بكسل، جسده ثقيل كصخرة. الموعد اليوم ليس مع أي لقاء عمل، بل مع "أبوها". المرة الخامسة التي يذهب فيها ليطلب يد "ليلى"، والمرة الخامسة التي يعرف نتيجتها مسبقًا. والده لم ييأس من نصحه: "يا بني، ابحث عن وظيفة أولًا، ثم اذهب لخطبتها". ولكن آدم كان عنيدًا، متمسكًا بخيط رفيع من الأمل، بأن الحب وحده قد يكون كافيًا هذه المرة ليثني قلب هذا الرجل المتحجر.

ارتدى تميم قميصًا كُويَ بعناية، وبنطالًا كلاسيكيًا. حاول أن يبدو جادًا، مسؤولًا، على الرغم من أن صورته في المرآة لم تعكس سوى شاب تائه. تنهد بعمق، ثم غادر شقته الصغيرة مودعًا جدرانها التي شهدت أحلامه المجهضة.

وصل إلى منزل ليلى، ذلك المنزل الذي كان يراه جنة، أما الآن فجدرانه بدت وكأنها تضيق عليه. فتح الباب، وظهر الأب بعينين حادتين لا تحملان أي ترحيب.

"أهلًا يا تميم." قالها الأب بصوت خفيض، لا يخلو من السخرية الخفية.

"مساء الخير يا عمي." رد تميم محاولًا جمع شتات ثقته.

جلس الاثنان في الصالون الصامت. ليلى لم تظهر، وكأنها تعلم السيناريو المحفوظ عن ظهر قلب. الأب لم يطل الانتظار.

"يا تميم، كم مرة سنتحدث في نفس الموضوع؟" قالها وهو يفرك يديه بضجر. "قلت لك مرارًا، ابنتي لا تتزوج من عاطل. أنت خريج حقوق، أين عملك؟ أين مستقبلك؟ هل تريدها أن تعيش على الهواء؟"

كل كلمة كانت سهمًا يخترق صدر تميم. حاول الدفاع عن نفسه، لكن الكلمات خانته.

"يا عمي، أنا أبحث... الظروف صعبة..."

قاطعه الأب بحدة: "الظروف لمن يقف مكتوف الأيدي. لو أنك رجل، لوجدت حلًا. اذهب يا تميم. لا أريد أن أراك هنا مرة أخرى، إلا ومعك ما يثبت أنك رجل يعتمد عليه، رجل له قيمة."

تلك الكلمة الأخيرة "قيمة"، كانت كالصفعة الباردة. نهض تميم بصعوبة، وعيناه لا تجرؤان على الارتفاع. لم يجد ما يقوله. غادر المنزل، تاركًا خلفه أحلامه محطمة، وكرامته مهدرة.

سار في الشوارع بلا وعي، تائهًا في زحام القاهرة. شعور بالقهر والغضب يغلي بداخله. "قيمة!"، هل قيمته الحقيقية تحددها وظيفة؟ هل مجرد ورق أو دخل مادي يحدد ما إذا كان رجلًا يعتمد عليه أم لا؟ اليأس كان ينهش روحه، لكن شيئًا ما، شرارة خفية، بدأت تتقد في أعماقه. شرارة غضب ممزوجة بإصرار غير مفهوم. عليه أن يجد تلك "القيمة"، ولو اضطر للبحث عنها في أقصى بقاع الأرض.

(١)

قالها تميم وهو عائد الى بيته دخل بيته وجد عائلته جالسين وكانهم متوقعين ما سيحدث نظر له اباه نظرة بمعنى قلت لك مررا وتكررا دخل تميم الى غرفته دون الحديث مع أحد رمى نفسه على سريره بجسد مثقل كانه لم يرى سريره منذ سنوات لم ينم بل ظل يفكر فى كلام والد ليلى قيمة ولو كنت راجل ظل يكررها وهو يشعر بالضيق والغضب لماذا لماذا يقولها وهو غاضب ارخى اعصابه قليلاً وحاول النوم لكنه لا يستطيع النوم حتى بعد قليل جائه اتصال اسم ليلى كان ينير ضوء الهاتف

تميم:الو ليلى كيف حالك

ليلى:انا بخير تقولها بصوت لم يعتده تميم من قبل

تميم:ماذا بكى

ليلى:تميم لقد مللت انها المرة الخامسه

تميم:اعلم لكن

ليلى قاطعته:تميم لقد تقدم احد لخطبتى وأبى وافق عليه

لقد نزلت تلك الكلمات على تميم كالصاعقة

تميم:ما ماذا تقولين لكن يقولها تميم بصوت متقطع من الصدمة

ليلى:تميم انا اسفه ارجوك امسح رقمي من عندك

تميم يحول ان يستوعب ما ينكره قلبه

تميم:ليلى هل تمزحين

ليلى:لا

لم تقل ليلى غيرها وأغلقت الخط

ظل تميم جالس فى حالة صدمة تامة عقله لا يستوعب ماذا حدث

تميم:ههههه ضحكه ساخرة مما وصل اليه

تميم:لما يا ليلى لقد احببتك

كانت اخر كلماته قبل أن يقرر الذى سيفعله و الذى كان متردد فيه

(٢)

السفر كان هو الحل الأنسب لكى يبتعد عن كل شئ عن البلد التى لا تقدر المتعلمين عن الإهانات عن كلمة عاطل عن ليلى التى لم يتوقع انها ستتركه فى صباح اليوم التالى استيقظ على ضوء الصباح على اشعة الشمس التى تدخل غرفته لقد قرر القرار الذى لا رجعت فيه لكنه لا يملك المال لكى يسافر عن طريق المطار أو عن طريق البحر حتى بالطرق الشرعية لذلك قرر الذهاب الى شخص يعرفه جيدا محمد المسؤال عن السفر غير الشرعى وبالفعل وبدون علم احد من اهله ذهب الى بيته الذى كان يبعد عن بيتهم بشوارع قليلة اتفق معه ورتب كل شئ أعطى لمحمد كل المال الذى كان يملكه لم يكن يريد شئ سوى أن يغادر تلك البلد التى لا تقدر اى شئ لقد ياس من حياته فيها تمام حدد له محمد موعد بعد اسبوع على متن سفينة ستبحر إلى ايطاليا رجع تميم الى بيته دخل غرفته دون محادثه احد جالس على سريره فى غرفته وحيدا

تميم: اسبوع واحد فقط وساذهب إلى مكان يقدر المتعلمين لا يهمنى ماذا ساعمل ساعمل فى اى شئ

يقولها لنفسه ولقد ياس من كل شئ تماما

نام تلك الليلة نوما عميقا يحلم بما سيحدث عندما يسافر تمر الايام وقبل سفره بيوم يقرر انه سيذهب للرؤيتها للمرة الأخيرة حتى ولو من بعيد لكن الساعة الان الواحدة ليلا لكن لا يهم سارها مهما كان يقول تميم لنفسه يخرج تميم من بيته بهدوء ويخرج إلى الشارع ظل يتجول فى الشوارع الهادئه فى ظلام الليل وقبل ان يصل إلى بيتها ويمر فى الشارع راى شئ غريب فى شارع جانبى ضيق ظن انه يتخيل أو انه بدا فى فقد عقله من شده الحزن واستمر فى طريقه لكن بعد قليل كان عقله يقول له عد لا يعلم لما لكنه استجاب لعقله ورجع إلى المكان

رجع الى المكان سريعا وجد امام عينه شئ غريب لا يعلم ما هو شئ دائرى فى ذلك الشارع الجانبى يتوهج بقوة اقترب منه بحرص

تميم:ما هذا الشئ

يمد يده نحوته يشعر بالبرودة وفى اقل من ثانيه بعد أن مد يده باتجاه هذا الشئ يبتلعه فى لحظة كانه سحبه اليه بقوة

(٣)

لم يكن هناك ضوء، لا هواء، لا صوت. مجرد فراغ مطلق ابتلعه، فراغ خالٍ من أي إحساس بالزمان أو المكان. استمرت هذه اللحظات التي بدت كأنها دهور، حتى شعر فجأة بدفعة قوية ألقت به على أرض صلبة. فتح عينيه ببطء، ليجد نفسه مستلقيًا على أرضية لامعة، أشبه بالزجاج المصقول، لكنها تبدو وكأنها مصنوعة من ضوء سائل. رفع رأسه، وتوقفت أنفاسه في صدره.

لم يكن هذا الشارع الضيق في القاهرة، ولا أي مكان رآه من قبل. كان يقف في قلب مدينة عظيمة، تتوهج بألوان لم يرها من قبل. مبانٍ شاهقة ترتفع في السماء، ليست من الحجر أو الخرسانة، بل من مواد شفافة تشع ضوءًا خافتًا، وكأنها بُنيت من النجوم نفسها. شوارع عريضة تتدفق فيها مركبات صامتة، ليست سيارات، بل أجسام انسيابية تحلق فوق الأرض دون عجلات، تاركة خلفها أثرًا خفيفًا من الضوء. السماء فوقه لم تكن زرقاء، بل مزيجًا من ألوان البنفسجي والأزرق العميق، تتخللها مجرات صغيرة تبدو كأنها معلقة على بعد أمتار قليلة، وليست ملايين السنين الضوئية.

توهجت عيناه دهشة، شعر وكأنه قد سقط في لوحة فنية غير مكتملة، أو حلم لم يكتمل بعد. لم يسمع صوتًا واحدًا، لا ضوضاء المدينة المعتادة، لا صخب البشر. كل شيء كان هادئًا بشكل غريب، هدوء يحمل في طياته رهبة وروعة. حاول النهوض، لكن ساقيه كانتا ترتجفان. "هل هذا حلم؟" همس لنفسه، لكن البرودة التي شعر بها عندما لمس الأرض، والرياح الخفيفة التي داعبت وجهه، أخبرتاه بأن هذا حلم واقعي جدًا.

بينما كان يحاول استيعاب المشهد، لمح حركة على بعد أمتار منه. كائنات لم يرها من قبل، تسير بخفة على الأرض اللامعة. كانت أطول من البشر بقليل، ذات أجساد نحيلة وأنيقة، ترتدي ملابس بسيطة لكنها تبدو متطورة، مصنوعة من أقمشة تشبه الضوء. لم تكن وجوهها واضحة المعالم، وكأنها محاطة بهالة خفيفة، لكن عيونها كانت تتوهج بضوء أزرق خافت، تنظر أمامه دون أن تلاحظه.

شعر بالخوف، لكن الفضول كان أقوى. هذه ليست "إيطاليا" التي حلم بها، هذا مكان لم يتخيله حتى في أقصى أحلامه جنونًا. عليه أن يفهم أين هو، وكيف وصل إلى هنا، والأهم من ذلك، كيف يمكنه العودة؟ تلك الكلمة "قيمة" التي طاردته، هل سيجدها هنا، في هذا العالم الذي يبدو وكأنه بُني من خيال محض؟

(٤)

البرودة التي شعر بها تميم لم تكن برودة هواء عادي، بل كانت برودة تحمل في طياتها شيئًا من الغموض، كأنها تخترق عظامه لتمس روحه مباشرة. رفع يده، ثم أنزلها، ليجد أنه لا يزال يرتدي نفس الملابس التي غادر بها منزله في القاهرة: قميصه المكوي بعناية وبنطاله الكلاسيكي. هذا وحده كان كافيًا ليجعله يشك في كل شيء. لو كان هذا حلمًا، فلماذا يرتدي نفس الثياب؟ ولو كان واقعًا، فكيف؟

توقف تميم عن التفكير في "كيف" للحظة، وركز على "ماذا الآن؟". الكائنات الغريبة التي رآها كانت لا تزال تتحرك بخفة، تتلاشى وتظهر وكأنها أشباح من ضوء. لم يبدُ أي منهم مهتمًا بوجوده، كأنه جزء من هذا المنظر العادي بالنسبة لهم. هذه اللامبالاة كانت تخيفه وتطمئنه في آن واحد. تخيفه لأنه غريب في مكان لا يعرف فيه أحدًا، وتطمئنه لأنه لم يُهاجم أو يُلاحق.

أخذ نفسًا عميقًا، ثم بدأ يخطو خطوات مترددة على الأرض اللامعة. كانت كل خطوة تحدث صدى خفيفًا لم يسمعه من قبل، كصوت تكسر بلورات صغيرة. مرّ بجوار أحد المباني الشاهقة، ومد يده ليلامس جداره الشفاف. شعر بملمس ناعم، بارد، لكنه يحمل دفئًا خفيًا في نفس الوقت، كأن المبنى يتنفس. كان يرى من خلال الجدار أشكالًا تتحرك في الداخل، لكنها لم تكن واضحة تمامًا، وكأنها ظلل من ضوء.

"أين أنا؟" كررت الكلمة في ذهنه، هذه المرة بصوت مسموع، أو هكذا ظن. لم يكن هناك صدى لكلماته، كأن الهواء يبتلع الصوت. شعر بالوحدة، بوحدة قاسية لم يشعر بها حتى في غرفته المظلمة في القاهرة. تذكر نظرة والد ليلى، كلمة "عاطل"، "قيمة". هل هذا هو القدر الذي ساقه إلى هنا ليجد تلك "القيمة" المفقودة؟

ظل يمشي، بلا اتجاه محدد، فقط يتبع غريزته التي تدفعه لاكتشاف هذا العالم الجديد. مرّ على ما يبدو أنها حدائق، لكن أزهارها لم تكن كأزهار الأرض، بل كانت نباتات متوهجة تشع ألوانًا زاهية، وتطلق روائح غريبة لم يشمها من قبل، روائح تجمع بين العبير العذب وعبق غامض. كانت هناك جداول صغيرة تتدفق فيها مياه مضيئة، كأنها أنهار من نجوم سائلة.

في وسط هذه الحديقة الغريبة، رأى كائنًا مختلفًا عن الآخرين. كان يجلس على مقعد منحوت من مادة شفافة، يبدو أكبر سنًا من الكائنات الأخرى، ووجهه كان أوضح قليلًا. كانت عيناه الزرقاوان المتوهجتان تنظران إلى الفضاء، كأنه يرى ما لا يراه غيره. تردد تميم للحظة، ثم قرر أن يقترب. هذا الكائن قد يكون مفتاحه لفهم هذا اللغز الذي ابتلعه.

(٥)

خطوات تميم كانت أبطأ وأكثر حذرًا هذه المرة. شعر بقلبه يدق بعنف في صدره، وكأنه على وشك اقتحام باب سري لعالم آخر. اقترب من الكائن الجالس، ورفع يده بتردد في محاولة للفت انتباهه، لكن الكائن لم يلتفت. عيناه المتوهجتان باللون الأزرق الخافت، ظلتتا مثبتتين على الأفق البعيد، كأنه يرى شيئًا لا يراه تميم.

"عذرًا..." نطق تميم بصوت خفيض، حاول أن يجعله مسموعًا، لكن الصوت تلاشى في هدوء المكان الغريب. كرر المحاولة، هذه المرة بصوت أعلى قليلًا: "يا سيدي... هل يمكنك مساعدتي؟"

هذه المرة، حدث شيء ما. تحركت عين الكائن ببطء شديد، وكأنها تستفيق من سبات عميق، ثم التفتت لتستقر على تميم. لم تكن هناك تعابير على وجهه، لكن تميم شعر وكأن نظرة هذه العين الزرقاء قد اخترقت روحه، فكشفت عن كل مخاوفه وتساؤلاته. كانت نظرة تحمل حكمة عميقة، وحزنًا خفيًا، وفضولًا لم يتمكن تميم من تفسيره.

مد الكائن يده، إيماءة دعوة. كانت يده نحيلة وشفافة تقريبًا، تشع ضوءًا خافتًا مثل باقي جسده. تردد تميم للحظة، ثم مد يده ليصافحه. لم يشعر بملمس لحم أو عظم، بل بملمس أشبه بالهواء البارد المكهرب، شعور غريب ومثير في آن واحد.

لم ينطق الكائن بكلمة، لكن تميم شعر بصوت، أو بالأحرى، بفكرة تتردد في رأسه، وكأنها كلمات تُنقل مباشرة إلى عقله دون الحاجة للأذن. كانت الكلمات واضحة، مفهومة، وكأنها لغته الأم: "أتيت من عالمكم... عالم الأجساد الثقيلة والأرواح المكبلة بالقيود."

شعر تميم بصدمة. كيف عرف هذا الكائن؟ هل يقرأ الأفكار؟ "كيف... كيف عرفت؟" سأل تميم بصوت مرتجف، هذه المرة بصوت مسموع، وكأن التواصل المباشر قد أعاد له القدرة على الكلام.

ابتسامة خفيفة، بالكاد مرئية، ارتسمت على شفتي الكائن. "كل من يعبر البوابة يحمل معه بصمة عالمه. عالمكم، الذي نطلق عليه 'عالم الظلال'، يترك أثره في أرواحكم. وبصمتك يا تميم... تحمل الكثير من اليأس والألم."

شعر تميم بالخجل، كأن عوراته قد انكشفت أمامه. "لكن... أين أنا؟ ما هذا المكان؟ وكيف وصلت إلى هنا؟"

نظر الكائن مرة أخرى إلى الأفق، حيث تتراقص المجرات في السماء. "أنت في 'أثيريا'، قلب الكون. مكان التقاء الأبعاد، وموطن 'المتوهجين'. أما عن كيف وصلت، فلقد اخترتك البوابة."

"البوابة؟ ما هي البوابة؟" سأل تميم بلهفة، فكل إجابة كانت تفتح أمامه عشرات الأسئلة الجديدة.

"البوابة هي نقطة عبور، نافذة بين العوالم. لا تفتح لأي كان، بل تختار من يحمل بذرة التغيير بداخله. ومن الواضح أنك تحمل تلك البذرة يا تميم، بذرة البحث عن القيمة الحقيقية، لا تلك التي تُقاس بالورق أو المعدن." قال الكائن، وعاد يحدق في الفضاء، كأنه يستمع لشيء لا يسمعه تميم. "البوابة لم تخطئ الاختيار يا تميم. قد تكون قد أتيت يائسًا، لكنك وصلت إلى حيث تبدأ القيمة الحقيقية."

(٦)كلمات الكائن، التي اخترقت عقله دون صوت، تركت تميم في حيرة أشد. "قيمة؟" هل هذه الكائنات تعرف عن بحثه؟ هل البوابة، هذا الشيء الغامض الذي ابتلعه، كانت تدرك يأس روحه وهدفه الخفي؟ لم يصدق ما سمعه، ومع ذلك، شعر بشيء ما يرتجف في أعماقه، كأن كل خلية في جسده تتوق إلى تصديق هذه الكلمات.

"من أنت؟" سأل تميم، هذه المرة لم يكن صوته مرتجفًا، بل محملًا بفضول شديد، وكأنه قد نسي كل ما كان يطارده من هموم القاهرة.

نظر الكائن إليه بعمق، ثم قال في عقله: "أنا 'أليكساندرا'. أحد حراس 'أثيريا'. وكل من يصل إلى هنا، يصبح جزءًا من هذه الحضارة، أو يتلاشى في الفراغ."

شعر تميم بقشعريرة تسري في جسده. يتلاشى في الفراغ؟ لم يكن أمامه خيار سوى الاستمرار. "جزء من هذه الحضارة؟ ماذا يعني ذلك؟"

"يعني أن 'أثيريا' ليست مجرد مكان يا تميم. إنها كيان حي، تتغذى على طاقة أرواح القادمين. كل منا له دور، وله قيمة يضيفها. أما أنت، فقدرك لم يتحدد بعد. لكنني أرى فيك طاقة خامًا، طاقة لم تُستغل بعد."

استغل تميم الفرصة ليسأل عن أهم شيء في ذهنه: "هل يمكنني العودة؟"

نظرت أليكساندرا إليه بنظرة حزينة. "لا يمكن العودة من البوابة، تميم. البوابة تفتح في اتجاه واحد فقط. عندما تخترق عوالم، فإنك تترك عالماً لتدخل آخر. لكن لا تخف. 'أثيريا' ليست سجنًا، بل هي فرصة. فرصة لتكتشف قدرات لم تكن لتعرفها في عالم الظلال."

صُدم تميم. لا عودة؟ هذا يعني أن كل ما كان يهرب منه في القاهرة قد أصبح بعيدًا عنه إلى الأبد. ليلى، أبوه، كلمة "عاطل"... كل ذلك اختفى خلف ستار البوابة الأبدي. شعر بلحظة يأس جديدة، ثم تحولت إلى شعور غريب بالتحرر. لم يعد هناك ما يخسره. لم يعد هناك قيود.

"ما هي هذه القدرات؟ وما هو دوري؟" سأل تميم، هذه المرة بعزم واضح في صوته، وكأن بذرة الأمل التي تحدثت عنها أليكساندرا بدأت تنبت.

"كل كائن في 'أثيريا' يمتلك قدرة فريدة، تختلف عن الآخر. البعض يستطيع تشكيل الضوء، والبعض الآخر يتحكم في الطاقة الكونية، وهناك من يقرأ أسرار النجوم. أما أنت يا تميم، فطاقتك لم تتجلى بعد. لكنني أشعر بوجود شيء عظيم بداخلك، شيء يتجاوز فهمنا." قالت أليكساندرا، ثم أومأت برأسها نحو طريق متعرج يختفي بين الأشجار المتوهجة. "عليك أن تذهب إلى 'معبد الأسرار'. هناك، ستجد من يرشدك إلى طريقك. لا تخف مما ستكتشفه، فقد يكون الطريق إلى قيمتك الحقيقية."

نظر تميم إلى الطريق، ثم إلى أليكساندرا. كانت عيناه الزرقاوان تحملان رسالة خفية، رسالة تقول: "لا تتردد." شعر بشجاعة غريبة تدب في قلبه. هذه ليست القاهرة، وليست الظروف الصعبة التي كبلته. هذا عالم جديد، بقواعد جديدة، وفرصة جديدة. "حسنًا، سأذهب." قال تميم، وخطا أولى خطواته نحو المجهول، تاركًا خلفه كل ما عرفه، ومستقبلًا كل ما لم يتخيله.

( ٧)

كل خطوة على ذلك الطريق المتعرج كانت تحمل ثقلًا مختلفًا. لم يكن ثقل الجسد المنهك من يأس البطالة، بل ثقل الترقب والخوف ممزوجًا بفضول جامح. كانت الأشجار المتوهجة على جانبي الطريق تطلق ضوءًا خافتًا، يرسم أشكالًا غريبة على الأرض اللامعة، وكأنها تراقص ظلالًا من عالم آخر. الهواء نفسه كان يحمل رائحة لم يشمها تميم من قبل، مزيجًا من المسك والكهرباء والزهور الفضية، رائحة تثير الحواس وتجعل العقل في حالة تأهب دائمة.

كان الطريق يصعد ببطء، وكأنه يقود إلى قمة العالم. كلما ارتفع تميم، كلما اتسع المشهد من حوله. أثيريا، هذه المدينة المضيئة، بدت وكأنها خريطة حية من النجوم، تتدفق فيها أنهار من الضوء، وترتفع أبراجها الشفافة لتلامس المجرات البعيدة. شعر وكأن قدميه قد لامست السحاب، أو ربما كانت سحب أثيريا مختلفة عن سحب الأرض.

بعد ما بدا وكأنه دهور من السير، وصل تميم إلى قمة التل. أمامه، لا معبد بالمعنى التقليدي، بل بناء ضخم، يتوهج بضوء أبيض نقي، وكأنه منحوت من نجم متألق. لم تكن هناك أبواب مرئية، بل فتحة ضخمة في المنتصف، تتدفق منها شلالات من الضوء السائل. كان الجو حول المعبد أكثر هدوءًا، وكأن الأثير يتجمع في هذا المكان.

تردد تميم للحظة. هل هذه هي فرصته؟ هل هذا هو المكان الذي سيجد فيه تلك "القيمة" التي بحث عنها طويلًا؟ تذكر كلام والد ليلى، ونظرات الشفقة، وكلمة "عاطل" التي حفرت في روحه. ثم تذكر كلمات أليكساندرا: "أنت تحمل بذرة التغيير... البوابة لم تخطئ الاختيار." أخذ نفسًا عميقًا، ودخل إلى المعبد.

كانت المساحة الداخلية للمعبد واسعة بشكل لا يصدق، وكأنها تمتد إلى ما لا نهاية. الجدران كانت شفافة، تسمح بمرور الضوء الكوني من الخارج، مما يخلق لوحة ضوئية متحركة على كل سطح. في المنتصف، كانت هناك منصة مرتفعة، تتدفق منها طاقة خضراء ساطعة، تضيء المكان كله. حول المنصة، كانت هناك كائنات تشبه أليكساندرا، لكنها كانت ترتدي أثوابًا بيضاء فضفاضة، وكانت عيونها المتوهجة باللون الأزرق تنظر إلى المنصة، كأنهم يؤدون طقسًا مقدسًا.

وبينما كان تميم يحاول استيعاب المشهد، شعر بدفعة قوية من الخلف، دفعة لم يسببها أحد، بل دفعة من طاقة غير مرئية. وجد نفسه يندفع نحو المنصة، لا يستطيع التحكم في جسده. سقط على ركبتيه أمام المنصة، وشعر بالطاقة الخضراء تتغلغل في جسده، كأنها آلاف الإبر المضيئة تخترقه. لم يكن ألمًا، بل شعورًا غريبًا باليقظة، كأن كل حواسه تتضاعف آلاف المرات. سمع أصواتًا لم تكن موجودة، ورأى ألوانًا لم يتمكن من تمييزها من قبل.

ثم، سمع صوتًا. لم يكن صوتًا في عقله مثل صوت أليكساندرا، بل صوتًا حقيقيًا، عميقًا، يتردد في أرجاء المعبد، وكأنه صادر من الكون نفسه: "أنت تميم... قادم من عالم الظلال... عالم الحواس الخمسة... هنا، حيث الحواس لا حدود لها... قدرك بدأ للتو يا من ابتلعته البوابة."

شعر تميم بقلبه يخفق بعنف، ليس خوفًا، بل إثارة. هذا الصوت، هذه الطاقة، هذا العالم، كلها كانت تعده بشيء لم يختبره من قبل. هل هذه هي البداية الحقيقية لرحلته نحو "القيمة"؟

(٨)

تلك الطاقة الخضراء التي غمرت جسد تميم لم تكن مجرد شعور، بل كانت كأنها تعيد تشكيل كل ذرة فيه. شعر بأن حواسه تتسع، لا تقتصر على ما اعتاده. أصبح يرى الألوان بطبقات لم يدرك وجودها من قبل، ويسمع أصواتًا خفية داخل الأثير، كأنها همسات الكون نفسه. كانت رائحة المعبد، التي لم تكن موجودة قبل قليل، تملأ رئتيه، مزيجًا من الأوزون النقي وعبير الأزهار الكونية. لم يعد جسده ثقيلًا كما كان في القاهرة، بل أصبح خفيفًا، كأن وزن الهموم قد تبخر.

ارتفع تميم ببطء عن الأرض، ليس بقوة عضلاته، بل بقوة غامضة تدفعه من الداخل. وقف أمام المنصة، وشعر وكأنه جزء منها. الأصوات التي سمعها، لم تكن مجرد صوت واحد، بل كانت ترددات متعددة، تتداخل لتشكل لحنًا كونيًا، لحنًا لا يمكن وصفه بالكلمات، لكنه يخاطب الروح مباشرة.

ظهرت أمامه، على المنحة المتوهجة، ثلاثة كائنات لم يرها من قبل. كانت أكثر إشراقًا من أليكساندرا، وأجسادهم تشع بضوء أبيض أقوى، وكأنهم مصدر النور في هذا المكان. كانت عيونهم تتوهج بضوء أزرق داكن، لكنها تحمل نظرة عميقة، نظرة لا تخلو من الفضول، لكنها أيضًا تحمل سلطة وحكمة.

"مرحباً بك يا تميم، في حضرة 'الحكماء الثلاثة'"، تردد صوت في عقله، صوت أكثر عمقًا وقوة من صوت أليكساندرا. "لقد وصلتنا بصمتك الروحية. بصمة تشي بالكثير من الأسئلة، والرغبة في إيجاد الذات."

شعر تميم بقلبه يخفق بعنف، لكنه لم يكن خوفًا، بل رهبة ممزوجة بانبهار. هؤلاء هم حكماء هذا العالم. "من أنتم؟ وماذا تريدون مني؟" سأل تميم بصوت ثابت، فوجئ هو نفسه بثباته.

"نحن الوصاة على 'أثيريا'، وحراس أسرارها. أما ما نريده منك يا تميم، فهو أن تجد طريقك. كل من يصل إلى هنا، يحمل قدرًا لم يتجلَ بعد. قدر قد يغير مصير عوالم." قال أحد الحكماء، وكانت كلماته تتردد في عقله كصوت الصدى في كهف عميق.

"أنا... أنا لا أفهم. أنا مجرد شاب من عالم آخر، كنت أبحث عن وظيفة لأتزوج من أحببت." قال تميم، وشعر بالخجل وهو ينطق بهذه الكلمات في حضرة هذه الكائنات العظيمة.

"وظيفة؟ زواج؟ هذه مفاهيم لعالمكم يا تميم، عالم حيث القيمة تقاس بالأوراق والأملاك. هنا، القيمة تُقاس بطاقة الروح، بما تستطيع أن تضيفه إلى الكون." قال الحكيم الثاني، وكانت نظراته تخترق تميم، كأنها تبحث في أعماق روحه. "لقد أتيت إلى هنا لأنك رفضت هذا المفهوم. لأنك أدركت في أعماقك أن قيمتك الحقيقية أكبر من ذلك."

"لكنني لم أكن أعرف هذا!" اعترض تميم، وشعر بالارتباك. "كنت يائسًا، كنت أبحث عن أي مخرج."

"واليأس يا تميم، هو أحيانًا البوابة إلى النور الأكبر." قال الحكيم الثالث، الذي كان صامتًا حتى الآن، وكانت كلماته تحمل هدوءًا غريبًا. "لقد ابتلعتك البوابة لأنك كنت على حافة الهاوية. لأن روحك كانت تتوق إلى شيء أكبر من مجرد البقاء على قيد الحياة. والآن، عليك أن تختار طريقك. طريق المعرفة، أو طريق القوة، أو طريق الانسجام."

نظر تميم إلى الحكماء الثلاثة، ثم إلى الأثير المحيط به. هذا العالم، هذه الكائنات، كل شيء كان يدعوه لاستكشاف قدراته الكامنة. "ماذا يعني كل طريق؟" سأل، وقد شعر بأن رحلته الحقيقية قد بدأت للتو.

(٩)

تلاشت كلمات الحكيم الثالث في الأثير، تاركةً خلفها صمتًا محملًا بالترقب. نظر تميم إلى وجوههم المتوهجة، ثم إلى الأثير اللامع الذي يحيط بهم. هذه ليست مجرد خيارات، بل مسارات حياة كاملة، ربما لمئات أو آلاف السنين. لم يعد يفكر في وظيفة أو زواج، فكل هذه الأمور بدت الآن بعيدة، كأنها جزء من حلم قديم.

"طريق المعرفة، يا تميم"، بدأ الحكيم الأول، الذي كان صوته يحمل رنينًا عميقًا، "هو طريق العقل المفتوح. ستتعلم أسرار الكون، من حركة النجوم إلى تكوين المجرات البعيدة. ستفهم لغة الأثير، وكيف تتشكل الحضارات، وكيف تتلاشى. ستصبح عقلًا كونيًا، يمتلك مفاتيح الحقيقة المطلقة. ولكن، هذا الطريق يتطلب صبرًا لا حدود له، وتجرّدًا عن المشاعر الأرضية، فالمعرفة أحيانًا تكون عبئًا ثقيلًا."

ثم تابع الحكيم الثاني، الذي كان صوته أكثر حدة، "أما طريق القوة، فهو طريق الإرادة المطلقة. ستتعلم كيف تشكل الأثير، كيف تسخّر طاقاته الكامنة. ستتمكن من تحويل الضوء إلى سلاح، وتطويع الجاذبية، وحتى خلق أبعاد جديدة. ستصبح سيدًا لقدرات لم يحلم بها بشر عالم الظلال. ولكن، هذا الطريق محفوف بالمخاطر، فالقوة بلا حكمة تتحول إلى دمار، والقوة تفتن أحيانًا النفوس."

وأخيرًا، تكلم الحكيم الثالث، الذي كان صوته الأكثر هدوءًا وسكينة، "وطريق الانسجام، هو طريق الروح المتناغمة. ستتعلم كيف تتصل بوعي الكون، وكيف تتفاعل مع كل كائن حي، من أصغر ذرة إلى أكبر نجم. ستصبح جزءًا من النسيج الكوني، قادرًا على شفاء الأرواح، وبث الأمل، وإعادة التوازن. ولكن، هذا الطريق يتطلب تضحية كبيرة، وتفهمًا عميقًا للمعاناة، فالتناغم الحقيقي يبدأ بتقبل كل جوانب الوجود."

تسللت الكلمات إلى عقل تميم، كل طريق يرسم صورة مختلفة في مخيلته. طريق المعرفة يغريه بفك ألغاز الكون، وهو الذي طالما أحب القراءة والبحث. طريق القوة يستهويه، فهو الذي شعر بالضعف والعجز في عالمه. وطريق الانسجام يلامس قلبه، فهو الذي كان يبحث عن الحب والتقبل.

تنهد تميم، هذه ليست وظيفة يختارها من قائمة أوائل الخريجين. هذه كانت رحلة روح، رحلة تحديد مصير. تذكر كيف كان يشعر بـ "قيمة" مزيفة في عالمه، قيمة تحددها الأرقام والألقاب. هنا، القيمة تتجلى في جوهره، في قدرته على إضافة شيء حقيقي للكون.

"كيف لي أن أختار؟" سأل تميم، وشعر بثقل الاختيار. "أنا لا أعرف نفسي بعد في هذا العالم."

ابتسم الحكيم الأول ابتسامة خفيفة، "الاختيار يبدأ من الداخل يا تميم. لا تختار بعقلك فقط، بل بقلبك وروحك. اقضِ بعض الوقت في 'حدائق التأمل' أسفل المعبد. هناك، ستجد الهدوء الذي يسمح لروحك بالتحدث. لا يوجد خطأ في الاختيار، فكل طريق يقود في النهاية إلى الحكمة، ولكن طريق واحد فقط هو الذي سيجعلك تزهر بالكامل."

وبإيماءة واحدة، تلاشت الكائنات الثلاثة في الضوء، تاركة تميم وحيدًا مرة أخرى في قلب المعبد المتوهج. نظر إلى المنصة التي كانت تشع بالطاقة الخضراء، ثم إلى الفتحة التي دخل منها. عليه أن يجد "حدائق التأمل"، وأن يجد الإجابة داخل نفسه. هذه المرة، لم يكن يائسًا، بل كان يشعر بشيء جديد، شيء أقرب إلى الشغف، وشيء أكبر من مجرد البحث عن وظيفة. إنه يبحث عن نفسه الحقيقية، في عالم لا يقيس البشر بالورق، بل بالضوء.

(١٠)

خرج تميم من المعبد، والضوء الأبيض النقي يغلف جسده، كأن جزءًا من سحر المكان قد التصق به. كانت قدميه تلامسان الأرض اللامعة بخفة، لم يعد يشعر بثقل خطواته المعتادة. الهواء البارد المكهرب يداعبه، وتلك الرائحة الغريبة، مزيج من العبير والأوزون، تملأ رئتيه، وكأنها تمنحه طاقة لم يعرفها من قبل.

"حدائق التأمل." كرر تميم الكلمة في عقله. لم يكن يعرف أين تقع، لكنه شعر بأن هناك شيئًا ما يرشده. اتجه نحو المسار الذي أومأت إليه أليكساندرا سابقًا، والذي كان يتلوى بين الأشجار المتوهجة. كلما سار، كلما شعر بأن الضوء يزداد كثافة، وأن الألوان تزداد زهوًا. لم تعد الأزهار مجرد نباتات، بل كانت كائنات حية، تتراقص بتناغم مع التيار الخفيف الذي يمر عبر الأثير، وتطلق همسات رقيقة كان تميم يدركها الآن، وكأنها أصوات من عالم آخر.

وصل إلى ما بدا وكأنها بوابة طبيعية، مدخل محاط بأشجار ضخمة تتشابك أغصانها لتشكل قوسًا مضيئًا. عند عبوره لهذه البوابة، شعر تميم بتيار خفيف يمر عبر جسده، كأن كل خلايا روحه تفتحت على مصراعيها. وجد نفسه في واحة من الهدوء المطلق، حيث تتجمع الجداول المضيئة لتشكل بحيرات صغيرة، تتوهج بمياهها السائلة التي تعكس ضوء المجرات في السماء.

في قلب الحديقة، كانت هناك صخور ضخمة، نحتتها الطبيعة ببراعة، تتخللها فتحات صغيرة تخرج منها همسات خافتة، وكأنها ترددات الأثير. جلس تميم على إحدى هذه الصخور، وأغمض عينيه. حاول أن يسمع ما تتحدث عنه روحه، كما نصحه الحكيم.

في البداية، لم يسمع سوى صخب عقله. ذكريات القاهرة، نظرة والد ليلى، كلمة "عاطل"، كل هذا كان يتردد في أذنه الداخلية. لكنه أخذ نفسًا عميقًا، وحاول أن يركز على هدوء المكان. ببطء، بدأت الأصوات تتلاشى، وبدأت صور الماضي تتضاءل. شعر وكأنه يغوص في أعماق نفسه، في بحر من السكون.

ثم، بدأ يرى. لم تكن صورًا بالمعنى الحرفي، بل كانت أحاسيس، ومضات من طاقة. رأى نفسه، ليس تميم الذي يعرفه، بل تميم آخر، يحمل قوة هائلة، يطلق شرارات من الضوء من يديه. وفي ومضة أخرى، رأى نفسه جالسًا بين النجوم، يفك شفرات الكون، وكل نجم يروي له قصة. وفي ومضة ثالثة، رأى نفسه يمد يديه إلى كائن مصاب، فيتدفق الضوء من راحته ليشفيه.

كانت هذه الومضات تتسارع، كل ومضة تكشف عن جزء مختلف من "تميم" الذي لم يكن يعرفه. شعر بتيار من الطاقة يتدفق عبر جسده، تيار قوي لكنه مريح. أدرك أن هذه ليست مجرد أحلام، بل هي جزء من كيانه، جزء من قدراته الكامنة التي لم تُكتشف بعد.

فتح تميم عينيه ببطء. لم يعد يشعر باليأس، ولا حتى بالضيق. كان هناك شعور جديد يملأ كيانه، شعور بالفخر، بالإثارة، بالمسؤولية. لم تكن تلك الومضات تخيفه، بل كانت تدعوه للاستكشاف. تذكر كلمات الحكماء: "كل طريق سيجعلك تزهر بالكامل."

نهض تميم، وشعر بثقة لم يعرفها من قبل. كان يعلم الآن. لم يكن بحاجة إلى التفكير طويلاً. إحدى تلك الطرق كانت تناديه بصوت أعلى من الآخرين، صوت يتردد في أعماق روحه، صوت كان يبحث عنه طوال حياته دون أن يدري.

(الصفحة ١١)

الضوء الخفيف الذي يلف "حدائق التأمل" لم يعد مجرد إضاءة، بل أصبح كأنه يتفاعل مع قرار تميم الصامت. اهتزت الأوراق المتوهجة على الأشجار، وتراقصت جداول الضوء السائل، كأن الكون يصفق لاختياره. نهض تميم، وشعر بأن جسده أصبح أخف، كأن كل ذرة فيه قد اتفقت مع روحه على هذا المسار.

لم يتجه تميم نحو المعبد مرة أخرى، بل نحو مسار جانبي، لم يكن قد لاحظه من قبل. كان هذا المسار يمتد عميقًا في قلب الحديقة، أضيق من المسارات الأخرى، ومحاطًا بأشجار أكثر كثافة، تطلق ضوءًا أزرق داكنًا، يبعث على الرهبة والإجلال في آن واحد. هذا المسار، الذي بدا كأنه يختفي في قلب الأثير، كان يناديه بقوة لا تُقاوم.

كل خطوة على هذا المسار كانت تقود إلى عمق أكبر في هذا العالم الجديد. لم يعد تميم يرى الكائنات المتوهجة التي كانت تسير في شوارع أثيريا. هنا، كان الهدوء أعمق، والتركيز أكبر. كانت الأشجار تزداد طولًا، وأغصانها تتشابك لتشكل قبة طبيعية، تتخللها فتحات صغيرة تسمح بمرور ومضات من النجوم البعيدة.

شعر تميم بأن الطاقة تتجمع في راحتيه، طاقة خفية، لكنها حقيقية. كانت أصابعه تتوهج بضوء خافت، ثم يختفي، وكأنها تتدرب على شيء ما. تذكر الومضات التي رآها في تأمله، تلك التي كان يطلق فيها شرارات الضوء. هل هذا هو الطريق؟ هل هذه هي القوة التي تحدث عنها الحكماء؟

بعد ما بدا وكأنه مسافة طويلة، وصل تميم إلى مساحة مفتوحة، في قلب هذه الغابة المتوهجة. لم يكن هناك مبنى، بل ساحة دائرية ضخمة، في وسطها كتلة من الأثير المتكثف، تشبه سحابة من الطاقة، تتوهج بألوان متغيرة، من الأزرق إلى البنفسجي، ثم إلى الأحمر. كانت هذه السحابة تطلق نبضات قوية، نبضات كان تميم يشعر بها في قلبه.

وفوق هذه السحابة المتوهجة، كانت هناك كائنات. ليست كائنات عادية، بل كائنات تبدو وكأنها منحوتة من الطاقة الخالصة. كانت أجسادهم أكثر كثافة من أجساد "المتوهجين" الآخرين، وعيونهم كانت تطلق شرارات من الضوء الساطع. كانوا يمارسون ما بدا وكأنه تدريب، يطلقون موجات من الطاقة من أيديهم، ويشكلون الضوء في أشكال معقدة، ثم يبعثرونها مرة أخرى.

شعر تميم بالدهشة، وكأن روحه قد وجدت مكانها. هذا هو طريقه. طريق القوة. تذكر كيف كان يشعر بالضعف والعجز في عالمه القديم، وكيف كانت القوة المادية هي التي تحدد المصير. هنا، القوة كانت شيئًا آخر، شيئًا ينبع من الجوهر، من القدرة على التحكم في الأثير.

تردد تميم للحظة، هل يقترب؟ هل يجرؤ على الدخول إلى هذا العالم من الطاقة الخالصة؟ وبينما كان يفكر، التفت أحد الكائنات المضيئة نحوه. لم يكن له وجه واضح المعالم، لكن تميم شعر بنظرة قوية تخترقه. ثم، مد الكائن يده، إيماءة دعوة أخرى. هذه المرة، لم تكن هناك ترددات صوتية في عقله. كانت الدعوة مباشرة، دعوة إلى الدخول إلى عالم القوة، عالم سيغير تميم إلى الأبد. مشى تميم بخطى ثابتة، نحو مصيره الجديد.

(الصفحة ١٣)

كل خطوة خطاها تميم نحو تلك الساحة المتوهجة، كانت بمثابة خلع لطبقة من طبقات عالمه القديم. شعر بأن الهواء من حوله يتكثف، محملًا بطاقة خام، طاقة لمسة الجلد فكهربته، وجعلت شعيراته تقف. الكائنات المضيئة توقفت عن تدريباتها، واتجهت أنظارها إليه. لم تكن نظرات فضول، بل نظرات تقييم، نظرات تشبه الليزر، تخترق كل ما فيه، وكأنها تقرأ شفرة وجوده.

مد الكائن الأول، الذي بدا كقائد بينهم، يده نحو تميم. لم تكن مصافحة، بل كانت لمسة خفيفة على جبهته. في تلك اللحظة، تدفق تيار هائل من المعلومات إلى عقل تميم. لم تكن كلمات، بل مفاهيم، صور، أحاسيس، وكأن الكائن يصب خبرة آلاف السنين في وعيه. رأى تقنيات تشكيل الضوء، طرقًا لتسخير الأثير، ومبادئ القوة الكونية. رأى تاريخًا من الحضارات التي استخدمت هذه القوة، صعودها وهبوطها، انتصاراتها وكبواتها.

شعر تميم بدوار خفيف، كأن عقله يتمدد لاستيعاب هذا الكم الهائل من المعرفة. عندما انتهى التدفق، تراجع الكائن الأول، وترك تميم يستوعب ما حدث.

"مرحبًا بك في 'معبد الطاقة'، يا تميم،" تردد صوت في عقله، صوت الكائن الأول. "لقد منحتك جزءًا من وعينا، لكن المعرفة وحدها لا تصنع القوة. عليك أن تختبرها، أن تجعلها جزءًا منك."

نظر تميم إلى يديه. لم تعد الأصابع تتوهج بخفة، بل كانت هناك نبضات خفيفة من الضوء تخرج من راحته، وتعود إليها، كأنها تتنفس. حاول أن يركز، متذكرًا إحدى الصور التي تدفقت إلى عقله: كرة من الطاقة المتوهجة. ركز، وببطء، بدأت كرة صغيرة من الضوء الأزرق تتشكل بين يديه. كانت صغيرة، لكنها حقيقية، تنبض بالطاقة.

شعر تميم بابتسامة خفيفة ترتسم على شفتيه. هذه هي القوة! هذه هي القيمة التي بحث عنها.

"جيد!" تردد صوت الكائن الأول. "القدرة كامنة في كل من يعبر البوابة. ولكن القدرة وحدها لا تكفي. الإرادة هي التي تحدد المصير."

بدأت الكائنات الأخرى بالتحرك. لم يتحدثوا، بل بدأوا يمارسون تدريباتهم مرة أخرى. أحدهم كان يشكل جسرًا من الضوء عبر الساحة، والآخر كان يرفع صخرة ضخمة من الأثير المتكثف بقوة عقله، وثالث كان يحول جسده إلى شكل من أشكال الطاقة النقية، ثم يعود إلى شكله الأصلي.

"عليك أن تبدأ بالأساسيات يا تميم،" قال الكائن الأول. "تشكيل الضوء، التحكم في التيار الأثيري، الدفاع عن الذات. هذه هي الخطوات الأولى في طريق القوة. تتبع 'زين'، هو من سيقودك في هذه المرحلة."

أومأ الكائن الأول نحو كائن آخر، كان يقف على حافة الساحة، جسده أكثر رشاقة من الآخرين، وعيناه تطلقان شرارات من الضوء الفضي. اقترب زين من تميم، ومد يده، هذه المرة لم تكن لمسة نقل معلومات، بل كانت دعوة مباشرة للبدء.

شعر تميم بإثارة هائلة. هذا ليس حلمًا، وهذا ليس مكانًا سيغادره ليواجه يأسًا جديدًا. هذا هو مكانه، على الأقل في الوقت الحالي. "ماذا أفعل؟" سأل تميم، وقد كانت عيناه تلمعان بتصميم لم يكن يعرفه من قبل. "أنا جاهز لأتعلم."

لقد وجد تميم تلك الشرارة التي تحدثت عنها أليكساندرا، شرارة الغضب ممزوجة بالإصرار، ولكنها تحولت الآن إلى شرارة من الشغف بالقوة، والقيمة الحقيقية.

(الصفحة ١٤)

كانت كلمات تميم الأخيرة صدى لقرار عميق، قرار لم يعد محكومًا بيأس الماضي، بل بشغف نحو المستقبل. زين، الكائن ذو الضوء الفضي، لم ينطق بكلمة، بل أومأ برأسه ودخل إلى ممر جانبي في الساحة، ممر يبدو وكأنه ينحت في قلب الأثير نفسه. تبعه تميم، وشعر بأن كل خلية في جسده تتوق إلى استكشاف هذا العالم الجديد من القوة.

الممر كان أضيق وأكثر ظلمة من الساحة الرئيسية، لكنه لم يكن مظلمًا تمامًا. كانت هناك خطوط متوهجة تتبع الجدران، ترسم أشكالًا هندسية معقدة، وكأنها خرائط لطاقة الكون. كان الهواء هنا أكثر كثافة، محملًا برائحة الأوزون والطاقة المركزة.

وصل زين إلى قاعة صغيرة، دائرية الشكل، في منتصفها منصة من الأثير المتكثف، تشبه حوضًا صغيرًا من الطاقة السائلة. كان الضوء في هذه القاعة خافتًا، مما سمح لتميم برؤية تفاصيل زين بشكل أوضح. كانت ملامحه أكثر وضوحًا من ملامح أليكساندرا، لكنها كانت لا تزال تشبه لوحة فنية من الضوء والظلال، وعيناه الفضيتان كانتا تلمعان بذكاء حاد.

"هنا، تبدأ رحلتك يا تميم،" تردد صوت زين في عقل تميم، صوت أكثر حدة وتركيزًا من صوت أليكساندرا أو الحكماء. "أول درس في طريق القوة، هو فهم الأثير."

مد زين يده فوق حوض الأثير السائل، وبدأ يركز. ببطء، بدأت سحب صغيرة من الطاقة تتصاعد من الحوض، تتشكل وتتغير، وكأنها تتراقص على أنغام خفية. ثم، وبإيماءة من يده، تجمعت هذه السحب لتشكل كرة صغيرة من الضوء، كرة تنبض بالحياة، ثم تلاشت.

"الأثير هو جوهر كل شيء في 'أثيريا'. هو المادة التي تُبنى منها المدن، والكائنات، وحتى الأفكار. عليك أن تتعلم كيف تتصل به، كيف تشعر به، كيف تجعله جزءًا من وعيك."

نظر تميم إلى حوض الأثير، ثم إلى يديه. تذكر الكرة الصغيرة التي شكلها بنفسه. "كيف؟" سأل، وقد كان صوته مليئًا بالترقب.

"بالتركيز، والإرادة، والتناغم." قال زين. "ضع يديك فوق الحوض، وحاول أن تشعر بالتيار الخفي الذي يتدفق فيه. لا تحاول السيطرة عليه في البداية، فقط اشعر به."

وضع تميم يديه فوق حوض الأثير. شعر ببرودة غريبة، ثم بدفء لطيف، كأن الحوض يتنفس. أغلق عينيه، وحاول أن يركز. تخيل التيار، تخيل طاقته وهي تتدفق في جسده، تندمج مع دمه، مع روحه.

في البداية، لم يشعر بشيء مميز، مجرد إحساس بالبرودة والدفء. لكنه لم ييأس. تذكر يأس الماضي، وكيف أن القوة هنا لا تُقاس بالورق. ركز أكثر، وحاول أن ينسى كل شيء آخر.

ثم، شعر بها. نبضة خفية، كأنها دقات قلب الأثير. بدأت النبضات تتزايد، وتتداخل، وتشكل تيارًا قويًا يتدفق من الحوض إلى يديه، ثم إلى ذراعيه، وإلى جسده بالكامل. شعر وكأن جسده يتوهج من الداخل، وكأن كل خلية فيه أصبحت مضاءة.

فتح عينيه. كانت يداه تتوهجان بضوء أزرق خافت، وكان حوض الأثير يتوهج بضوء أقوى. نظر إلى زين، الذي كان يبتسم ابتسامة خفيفة، ابتسامة نادرة لم يرها من قبل.

"جيد جدًا يا تميم،" قال زين. "لقد بدأت في فهم لغة الأثير. هذه هي الخطوة الأولى. والآن، لنتعلم كيف تشكلها."

بدأ تميم يدرك أن رحلته لم تكن مجرد هروب من الماضي، بل كانت رحلة اكتشاف لذات لم يكن يعرفها، ذات تحمل في طياتها قوة لم يتخيلها.

(الصفحة ١٥)

الكلمات الأخيرة لزين كانت كالمفتاح الذي يفتح قفلًا قديمًا في عقل تميم. لم يعد مجرد "الشعور" بالأثير، بل "تشكيله". هذا ما رآه في رؤاه بحدائق التأمل، وهذا ما كان يتوق إليه. ابتسامة خفيفة، لكنها مليئة بالثقة، ارتسمت على شفتيه.

"الآن، ركز على هذا التيار الذي تشعر به،" قال زين، بينما كان يده اليمنى تشكل كرة صغيرة من الضوء فوق حوض الأثير، "حاول أن تسحبه إلى راحتيك. تخيل أنك تسحب خيوطًا من النور، ثم تجمعها في نقطة واحدة."

أغمض تميم عينيه مرة أخرى. كانت رؤاه التي تدفقت إليه من لمسة الكائن الأول في "معبد الطاقة" تتردد في ذهنه. أشكال هندسية، تدفقات من الضوء، طرق لتكثيف الطاقة. مد يديه فوق الحوض، وحاول أن يشعر بتلك الخيوط المتدفقة من الأثير. تخيلها كخيوط من الحرير المتوهج، يحاول جمعها بين أصابعه.

في البداية، لم يحدث شيء. شعر بالتيار، لكنه لم يستطع أن يوجهه. كانت الأثير يتدفق بحرية، لا يستجيب لإرادته. تذكر لحظات الإحباط في عالمه القديم، عندما كان يشعر بالعجز أمام الظروف. لكن هذه المرة، لم يسمح لليأس بأن يتسلل إليه. لديه هدف هنا، لديه فرصة لا تقدر بثمن.

"الإرادة، يا تميم،" تردد صوت زين في عقله، كأنه يقرأ أفكاره. "الإرادة هي مفتاح القوة. لا تدع الشك يتسرب إلى روحك. تخيلها، اجعلها حقيقة في عقلك، وسوف تتجسد في يديك."

ركز تميم بقوة أكبر. لم يعد يتخيل خيوطًا، بل تخيل أن طاقة الأثير جزء منه، جزء من روحه. تخيل أنه هو من يبث هذه الطاقة، لا أن يستقبلها. ثم، وببطء، بدأت كرة صغيرة من الضوء تتشكل بين يديه. كانت خافتة في البداية، ثم ازدادت توهجًا، نبضت بقوة، وكأنها قلب صغير ينبض في كف يده.

كانت الكرة أكبر قليلًا من التي شكلها في المعبد. كانت زرقاء نقية، وكأنها قطعة من السماء الليلية. لمسها بأصابعه الأخرى، وشعر بدفء لطيف، وطاقة اهتزازية خفيفة. هذا هو شعور القوة! هذا هو شعور "القيمة" الحقيقية.

"ممتاز!" قال زين، وكانت نبرته تحمل إعجابًا واضحًا. "لقد تجاوزت التوقعات. معظم القادمين الجدد يحتاجون وقتًا أطول بكثير لتشكيل الأثير بهذه الدقة."

شعر تميم بفخر لم يشعر به في حياته كلها. فخر لا علاقة له بشهادة أو وظيفة، بل فخر ينبع من قدرة حقيقية كامنة فيه.

"الآن، لنتعلم كيف توجه هذه الطاقة،" قال زين، ثم مد يده نحو جدار القاعة. "تخيل أن هذه الكرة هي امتداد لروحك. وجهها نحو الجدار، وحاول أن تحدث بها بصمة."

أغمض تميم عينيه مرة أخرى. تخيل أن الكرة تتصل بروحه، وأنها تستجيب لإرادته. وجهها نحو الجدار، وبتركيز كامل، أطلقها. انطلقت الكرة من يده بسرعة، وارتطمت بالجدار بهدوء، وتركت خلفها بصمة متوهجة باللون الأزرق، بصمة تشبه شكل يده، لكنها مصنوعة من الضوء.

نظر تميم إلى البصمة، ثم إلى زين. كانت عيناه تلمعان ببريق لم يُطفئ من قبل. هذه ليست مجرد قوة، بل هي فن، وإبداع، ووسيلة للتعبير عن الذات. لقد وجد مكانه في هذا العالم، عالم لا يرى فيه "عاطلًا" أو "يائسًا"، بل يرى فيه بذرة من الطاقة الكونية تنتظر أن تزهر.

(الصفحة ١٦)

تلك البصمة المضيئة على الجدار كانت أكثر من مجرد علامة، كانت ختمًا، إثباتًا لوجود قوة بداخله لم يكن ليحلم بها في عالمه القديم. نظر تميم إلى البصمة، ثم إلى يديه، وشعر وكأنها قد تغيرت، لم تعد مجرد أداة للكتابة أو المصافحة، بل أصبحت قنوات للطاقة الكونية.

"هذه هي البداية فقط يا تميم،" قال زين، بينما كانت عيناه الفضيتان تراقبان البصمة المتوهجة. "القدرة على التشكيل هي الأساس. والآن، لنتعلم كيف نستخدمها بفعالية."

أشار زين إلى مجموعة من الأجسام المعلقة في الهواء، تبدو كبلورات مضيئة بألوان مختلفة، تتراقص ببطء في منتصف القاعة. "هذه البلورات هي أهدافك. كل بلورة تتطلب تركيزًا مختلفًا، وشكلًا مختلفًا من الطاقة. حاول أن تطلق عليها كرة طاقة، ولكن هذه المرة، حاول أن تجعلها تتوهج بلون البلورة المستهدفة."

شعر تميم بالتحدي. لم يكن الأمر مجرد إطلاق طاقة، بل كان يتطلب تحكمًا ودقة. أغمض عينيه، وتذكر ما رآه في تدفق المعلومات من الكائن الأول. رأى صورًا لكائنات متوهجة تغير لون طاقتها حسب الحاجة، من الأزرق إلى الأخضر، ثم إلى الأحمر.

ركز على البلورة الزرقاء. تخيل اللون الأزرق يتدفق من الأثير، يندمج مع طاقته، ثم يتكثف في راحة يده. ببطء، بدأت كرة من الضوء الأزرق تتشكل بين يديه، أكثر إشراقًا ووضوحًا من ذي قبل. أطلقها، وانطلقت الكرة بسرعة نحو البلورة، وارتطمت بها، مما أحدث وميضًا أزرق ساطعًا، اهتزت على إثره البلورة.

"جيد!" قال زين، بنبرة تحمل تقديرًا هذه المرة. "الآن، حاول البلورة الخضراء."

كرر تميم العملية، لكن هذه المرة ركز على اللون الأخضر. شعر بتيار أخضر يتدفق من الأثير، يمتزج بطاقته. تشكلت كرة خضراء زاهية، أطلقها نحو البلورة الخضراء، وارتطمت بها، فأحدثت وميضًا أخضر قويًا.

استمر تميم في التدريب، يطلق كرات من الطاقة بألوان مختلفة، كل مرة يزداد تحكمه ودقته. شعر بأن الأثير أصبح جزءًا منه، يتنفس معه، ويستجيب لإرادته. لم يعد يفكر في نفسه كـ "عاطل"، بل كقناة للطاقة الكونية. كان يشعر بقيمة جديدة، قيمة تنبع من قدرته على الإبداع والتأثير.

بعد فترة، توقف زين عن مراقبته. "لقد تجاوزت مرحلة الأساسيات يا تميم. تحكمك في الأثير مدهش. الآن، لنتعلم كيف تحمي نفسك من طاقة الآخرين، وكيف تستخدم الأثير في الدفاع."

شعر تميم بالإثارة. الدفاع! هذا يعني أن هناك جانبًا آخر للقوة، جانب يتجاوز مجرد الهجوم. هل هناك تهديدات في هذا العالم المتوهج؟

"الآن، يا تميم،" قال زين، وقد أشار إلى حائط آخر في القاعة. "سأطلق عليك نبضات من الأثير. مهمتك هي أن تشكل درعًا من الطاقة لحماية نفسك. لا تحاول صد النبضات، بل امتصها، واجعلها تمر عبر جسدك دون أن تؤذيك."

شعر تميم بتوتر خفيف. هذه ليست بلورات ثابتة، هذه طاقة موجهة إليه. أخذ نفسًا عميقًا، وتذكر كلمات زين عن "التناغم" و "الإرادة".

وقف زين على بعد أمتار قليلة، ورفع يديه. بدأت طاقة حمراء تتجمع في راحتيه، ثم أطلقها في نبضة قوية نحو تميم. لم يكن نبضًا عنيفًا، لكنه كان قويًا بما يكفي ليشعر تميم بضغط الهواء.

ركز تميم. تخيل درعًا من الضوء يحيط به، ليس درعًا صلبًا، بل درعًا يمتص الطاقة. شعر بالنبضة الحمراء تلامس جسده، لكنها لم تخترقه. مرّت عبره، كأنها تيار كهربائي خفيف، ثم تلاشت خلفه.

"جيد!" قال زين. "الآن، لنتعلم كيف نستخدم هذه الطاقة في صد هجوم حقيقي."

كانت هذه هي البداية الحقيقية لرحلة تميم في "معبد الطاقة". رحلة لن تمنحه القوة فحسب، بل ستمنحه المعنى، والقيمة التي طالما بحث عنها، في عالم أخيرًا قدره.

(الصفحة ١٧)

الكلمة الأخيرة لزين، "هجوم حقيقي"، أطلقت شرارة من الأدرينالين في عروق تميم. لم يعد الأمر مجرد تدريب ذهني أو حسي، بل كان استعدادًا لمواجهة. شعر بضغط طفيف في راحة يديه، كأن الطاقة الكامنة فيه تتأهب. الهواء في القاعة أصبح أكثر توترًا، وكأن الأثير نفسه يترقب.

"الآن، يا تميم،" قال زين، ويده تطلق نبضات أثيرية أسرع وأقوى. كانت النبضات تتجه نحو تميم الواحدة تلو الأخرى، بألوان مختلفة، وكأنها سهام مضيئة. حاول تميم أن يركز، متخيلًا الدرع الذي يحيط به. كانت بعض النبضات تمر عبره، بينما كان يشعر بالبعض الآخر يلامس جسده بحدة، كأنها ضربات خفيفة، لكنها لم تؤذه.

"ليس فقط الامتصاص يا تميم،" تردد صوت زين في عقله، بينما كانت النبضات تتوالى. "يجب أن تكون الدرع امتدادًا لإرادتك. أينما توجه ذهنك، يكون درعك. لا تفكر في الصد، بل فكر في الإزاحة. اجعل الطاقة تمر من حولك، كأنك مجرى للنهر."

أغمض تميم عينيه للحظة، وتخيل نفسه نهرًا. نهرًا لا يقف في وجه التيار، بل يسمح له بالمرور عبره، ويغير مساره. فتح عينيه، وركز على إزاحة الطاقة. كانت النبضات تقترب، وفي اللحظة التي كانت ستصطدم به، شعر بقوة داخلية تدفعه لإزاحة جسده، ليس حركيًا، بل بطاقة كامنة. مرت النبضات من جانبه، وكأنها لم تكن موجودة.

شعر زين بابتسامة خفيفة، ابتسامة نادرة جدًا. "ممتاز. لقد بدأت تفهم مبدأ الإزاحة. الآن، لنتعلم كيف توجه هذه الطاقة المرتدة."

غير زين اتجاه نبضاته. أطلق نبضة واحدة، قوية ومكثفة، نحو تميم. ركز تميم على الإزاحة، لكن هذه المرة، بينما كانت النبضة تمر من جانبه، تخيل أنه يمسك بها، يوجهها، ثم يعيد إطلاقها نحو نقطة معينة على الجدار. تحركت النبضة بسرعة، وعادت لتصطدم بالجدار الذي كان خلف زين، مخلفة وراءها بصمة حمراء ساطعة.

"باهر!" قال زين، وكانت هذه الملمح الوحيد الذي كشف عن انبهاره. "لقد أصبحت قادرًا على توجيه الطاقة المرتدة. هذه مهارة متقدمة جدًا، وتمتلكها بفطرة لم نرها منذ زمن."

شعر تميم بارتفاع معنوي هائل. لم يكن الأمر يتعلق فقط باكتساب القوة، بل بتحقيق إنجاز، بتحطيم حواجز لم يكن يعلم بوجودها. تذكر كلمات والد ليلى عن "القيمة"، وأدرك أن القيمة الحقيقية لا تأتي من الآخرين، بل من الداخل، من قدرته على التطور والتعلم.

"الآن، يا تميم،" قال زين، وقد غير نبرته، وأصبحت أكثر جدية. "القوة ليست فقط للدفاع والهجوم. القوة هي الفهم، هي التوازن. عليك أن تتعلم كيف تستخدم طاقتك ليس لتدمير، بل لتشكيل، لتغيير، لخلق."

أشار زين إلى وسط القاعة. "هنا، سنبدأ مرحلة جديدة. مرحلة بناء أشكال معقدة من الأثير. مرحلة تتطلب ليس فقط القوة، بل الخيال، والدقة، والتناغم مع طبيعة الأثير."

بدأ زين يشكل مجسمات معقدة من الأثير. لم تكن كرات بسيطة، بل كانت هياكل ثلاثية الأبعاد، تتغير وتتلاشى، وكأنها منحوتات حية من الضوء. كانت تارة زهرة متفتحة من الأثير الأخضر، وتارة طائر فضي يرفرف بجناحيه، وتارة أخرى مدينة صغيرة تتوهج بألوان قوس قزح. كل شكل كان يظهر ويختفي في لحظات، مما يدل على تحكم زين المطلق.

"هذه هي مرحلة الإتقان يا تميم،" قال زين. "عليك أن تبدأ بأشكال بسيطة. تخيلها في عقلك، ثم اجعلها حقيقة بين يديك."

شعر تميم بالتحدي، لكنه كان تحديًا ممتعًا. لم يكن يملك أي موهبة فنية في عالمه القديم، لكن هنا، كانت يداه، وعقله، وروحه، أصبحت قادرة على الإبداع. أغمض عينيه، وتخيل زهرة، زهرة ليست من عالم البشر، بل زهرة من الأثير، تتفتح بتلاتها ببطء، وتطلق ضوءًا خفيفًا.

مد يديه، وبدأ يركز. شعر بالأثير يتدفق في أصابعه، يتشكل، يتكثف. ببطء، بدأت بتلات الزهرة تتشكل، واحدة تلو الأخرى، شفافة، لكنها متوهجة. كانت زهرة صغيرة، لكنها كانت أول إبداع حقيقي لتميم في هذا العالم الجديد. فتح عينيه، ونظر إلى الزهرة، ثم إلى زين. كانت عيناه تلمعان بانتصار لم يشعر به من قبل. هذا لم يكن مجرد قوة، هذا كان خلقًا.

(الصفحة ١٨)

تلك الزهرة المتوهجة، التي تفتحت بين يدي تميم، لم تكن مجرد شكل من الأثير، بل كانت رمزًا. رمزًا لتحرر طاقته الكامنة، وقدرته على الخلق. نظر إليها تميم بإعجاب، وكأنها أغلى جوهرة يمتلكها. كانت بتلاتها الشفافة تتراقص ببطء، وتطلق ضوءًا خافتًا، وتملأ القاعة برائحة خفيفة، عطر الأثير النقي.

"جميل جدًا يا تميم،" قال زين، وكانت نبرته تحمل إعجابًا خالصًا. "لقد أصبحت قادرًا على تشكيل الأثير بوعي، وهذا يفتح أمامك آفاقًا جديدة. ولكن، الأثير ليس مجرد مادة للتشكيل. الأثير هو لغة، لغة الكون. وعليك أن تتعلم كيف تقرأ هذه اللغة، وكيف تتحدث بها."

أشار زين إلى جدار آخر في القاعة، كان مليئًا بنقوش معقدة، تبدو كأنها رموز غريبة، أو ربما حروف من لغة قديمة. كانت هذه النقوش تتوهج بضوء خافت، وتتغير ألوانها باستمرار، وكأنها تتنفس.

"هذه هي 'رموز الأثير'،" قال زين. "كل رمز يحمل معنى، ويوجه تدفق الطاقة بطريقة معينة. عندما تفهم هذه الرموز، ستتمكن من توجيه الأثير ليس فقط في أشكال، بل في وظائف. ستتمكن من فتح الأبواب، وإصلاح الأشياء، وحتى تغيير الواقع من حولك."

شعر تميم بالتحدي يزداد. لم يعد الأمر يتعلق بالقوة الجسدية أو المادية، بل بالقوة الفكرية، بفهم أعمق للكون. "كيف أتعلم هذه الرموز؟" سأل تميم، وقد كانت عيناه تلمعان بفضول لا يُقاوَم.

"بالتأمل، والممارسة، والتواصل،" قال زين. "ستقضي الأيام القادمة في هذه القاعة. سأعرض عليك رمزًا واحدًا في كل مرة. مهمتك هي أن تتأمل في هذا الرمز، وتتركه يتغلغل في وعيك. ثم، حاول أن تشكله بالأثير بين يديك، وأن تشعر بالمعنى الذي يحمله."

بدأ زين في عرضه الأول. أطلق نبضة من الأثير نحو أحد النقوش على الجدار. توهج النقش بضوء أزرق ساطع، ثم ظهر في الهواء شكل يشبه المثلث المتداخل مع دائرة، يطلق شرارات صغيرة.

"هذا هو رمز 'التوازن'،" قال زين. "إنه يمثل الانسجام بين القوى المختلفة في الكون. ركز عليه، وتأمل في معناه."

أغمض تميم عينيه، وحاول أن يستوعب الرمز. تخيله في عقله، ورأى معناه يتجلى في كل شيء حوله. رأى التوازن في تدفق الأثير، في توازن الكواكب في السماء، وحتى في توازن القوى داخل نفسه.

مد يديه، وبدأ يشكل. كانت العملية أبطأ هذه المرة، وأكثر صعوبة. لم يكن يشكل شكلًا عشوائيًا، بل شكلًا يحمل معنى، يحمل طاقة. ببطء، بدأت خطوط الضوء تتشابك بين يديه، تشكل مثلثًا، ثم دائرة، ثم تتداخل لتشكل رمز "التوازن". كانت الكرة المضيئة التي شكلها من قبل قوية، لكن هذا الرمز كان يحمل إحساسًا مختلفًا، إحساسًا بالانسجام والكمال.

"ممتاز!" قال زين، وكانت ابتسامته هذه المرة أوسع. "لقد استوعبت المعنى بشكل أسرع مما توقعت. هذا يدل على أن روحك تتناغم مع لغة الأثير بشكل طبيعي."

شعر تميم بفخر غامر. لم يكن يتخيل أبدًا أنه سيصل إلى هذا المستوى من الفهم والقدرة. لقد تغيرت حياته بالكامل في غضون أيام قليلة، منذ أن ابتلعته تلك البوابة الغامضة. لم يعد الرجل اليائس الذي كان عليه في القاهرة، بل أصبح كائنًا جديدًا، يتعلم لغة الكون، ويشكل الأثير، ويجد "قيمته" الحقيقية في كل نبضة من نبضات هذا العالم المتوهج. كان يعلم أن الطريق طويل، وأن هناك الكثير ليتعلمه، لكنه كان مستعدًا. كان شغفه بالمعرفة والقوة ينمو مع كل رمز جديد، وكل فهم أعمق للأثير.

(الصفحة ١٩)

مرت الأيام، أو ربما الأسابيع، في "معبد الطاقة" كأنها لحظات مضيئة. فقد تميم إحساسه بالزمن العادي، ففي "أثيريا" لا يوجد ليل أو نهار بالمعنى المألوف، بل تدفق مستمر للضوء والأثير. كان كل يوم يجلب تحديًا جديدًا، ورمزًا جديدًا ليتعلمه، وطاقة جديدة ليكتشفها في نفسه.

أصبح تميم قادرًا على تشكيل رموز الأثير ليس فقط في يديه، بل في الهواء من حوله. كان يستطيع أن يخلق دوائر من الطاقة المتوهجة، أو مثلثات تدور ببطء، أو حتى أشكالًا أكثر تعقيدًا تتفاعل مع بعضها البعض. لم تعد يده مجرد يد، بل كانت قنوات للطاقة، تستجيب لأدق إشارة من وعيه.

تعلم تميم أيضًا كيف يتفاعل مع الأثير على مستوى أعمق. لم يعد مجرد "الشعور" به أو "تشكيله"، بل أصبح قادرًا على "سماع" همساته، "رؤية" تدفقاته الخفية التي لا يراها غيره. كان بإمكانه أن يدرك وجود الطاقة في كل شيء حوله، في البلورات المضيئة، في جدران المعبد، وحتى في الكائنات المتوهجة التي تمر من بعيد.

في إحدى ليالي التدريب، أو ما يعادلها من زمن في "أثيريا"، كان تميم يجلس في وسط القاعة، يمارس التأمل في رمز جديد، رمز "الوحدة". كان هذا الرمز أكثر تعقيدًا من سابقيه، فهو يمثل ترابط كل شيء في الكون. بينما كان يركز، شعر بتيار قوي من الطاقة يتصاعد من حوض الأثير في المنتصف، تيار لم يشعر به من قبل.

فتح تميم عينيه. رأى زين يقف أمامه، لكن هذه المرة، لم يكن زين وحده. كانت الكائنات المضيئة التي تدرب في الساحة الرئيسية تقف خلفه، ووجوههم المضيئة تحمل تعابير لم يتمكن تميم من فهمها تمامًا. كانت هناك رهبة، وإعجاب، وشيء آخر لم يدركه تميم بعد.

"لقد تجاوزت مرحلة التدريب يا تميم،" قال زين، وكان صوته يحمل رنينًا جديدًا، رنينًا من الفخر. "لقد أتقنت فن تشكيل الأثير، وفهمت لغة الرموز، وأصبحت جزءًا من هذه الحضارة. لقد أظهرت قدرات لم نرها في قادم من عالم الظلال منذ دهور."

شعر تميم بالارتياح، ثم بالترقب. هل هذا يعني نهاية رحلته هنا؟ هل سيصبح جزءًا من هؤلاء "المتوهجين"؟

"الآن، يا تميم،" تابع زين، وقد أومأ برأسه نحو الباب الذي دخلوا منه إلى هذه القاعة. "لقد حان الوقت لتواجه اختبارك الأخير. اختبار يحدد قيمتك الحقيقية في 'أثيريا'."

شعر تميم بقشعريرة تسري في جسده. اختبار أخير؟ ماذا يمكن أن يكون؟ هل هو اختبار قوة؟ أم معرفة؟ أم توازن؟ تذكر كلمات والد ليلى عن "القيمة"، وأدرك أن هذا الاختبار سيحدد ما إذا كان "رجلًا يعتمد عليه" في هذا العالم الجديد. كان مستعدًا. لم يعد يخشى شيئًا، فقد فقد كل ما كان يربطه بالماضي، واكتسب كل ما يربطه بهذا المستقبل المجهول.

(الصفحة ٢٠)

كان الهواء في "معبد الطاقة" يتكثف، محملًا بتوقع رهيب. كلمات زين عن "الاختبار الأخير" تركت صدى عميقًا في نفس تميم. لم يكن خوفًا، بل إثارة ممزوجة بترقب. هذا هو الخطوة الحاسمة، التي ستحدد مصيره في هذا العالم الغامض.

مشى تميم خلف زين، وخرج من القاعة التي شهدت تحوله. الكائنات المضيئة في الساحة الرئيسية كانت لا تزال تمارس تدريباتها، لكنها كانت تنظر إلى تميم وزين بعيون متوهجة، وكأنهم يدركون أهمية هذه اللحظة.

قاد زين تميم إلى ممر جانبي آخر، لم يكن قد لاحظه من قبل. كان هذا الممر مختلفًا عن سابقيه، فهو لم يكن مضاءً بالضوء العادي لأثيريا، بل كان مظلمًا بشكل جزئي، وتتخلله ومضات خافتة من الضوء الأحمر، وكأنها نبضات من قلب الأرض. كانت الجدران خشنة الملمس، وليست ناعمة وشفافة كباقي أثيريا، مما أعطى انطباعًا بالقدم والغموض.

"إلى أين نذهب؟" سأل تميم، وقد شعر بتوتر خفيف.

"إلى 'غرف الاختيار'،" تردد صوت زين في عقله، وكان صوته هذه المرة أكثر جدية. "هنا، تواجه كل روح حقيقتها. هنا، يختبر كل قادم من عالم الظلال قدراته الحقيقية، وقدرته على الصمود أمام الظلام."

وصل زين إلى باب ضخم، لم يكن مصنوعًا من الأثير الشفاف، بل من مادة تشبه المعدن الداكن، وتتوهج بضوء أحمر خافت. كانت عليه نقوش غريبة، تبدو كأنها رموز سحرية، أو ربما تعويذات قديمة. لم تكن هناك مقابض، بل كان الباب مسطحًا، يبدو وكأنه قطعة واحدة من المعدن.

مد زين يده نحو الباب. توهجت راحته بضوء أبيض ساطع، ثم أطلق نبضة من الطاقة نحو النقوش. اهتز الباب بعنف، ثم بدأ ينزلق ببطء، ليكشف عن فراغ أسود مطلق في الجهة الأخرى. لم يكن هناك ضوء، لا أثير، مجرد ظلام دامس يبتلع كل شيء.

"هذا هو اختبارك يا تميم،" قال زين، وعيناه الفضيتان تنظران إلى الفراغ الأسود. "عليك أن تدخل هذا الظلام، وأن تجد طريقك عبره. لا يوجد ضوء يرشدك، ولا هناك مرشد يوجهك. عليك أن تعتمد على حواسك الجديدة، على طاقتك الداخلية، وعلى إيمانك بنفسك. الظلام هو حيث يختبر الأثير الحقيقي."

شعر تميم بقشعريرة حقيقية تسري في جسده. ظلام مطلق؟ هو الذي كان يبحث عن النور طوال حياته. تذكر غرفة نومه المظلمة في القاهرة، ويأسه الذي كان يحيط به. هل هذا الاختبار سيجعله يعود إلى ذلك اليأس؟

"ماذا يوجد في الداخل؟" سأل تميم، محاولًا أن يسيطر على رجفة في صوته.

"لا يمكنني أن أخبرك،" قال زين. "هذا هو جزء من الاختبار. عليك أن تواجه المجهول. ولكن، أعلم أن كل ما تعلمته هنا، كل قوة اكتسبتها، ستكون دليلك."

نظر تميم إلى الفراغ الأسود. كان يدرك أن هذا ليس مجرد ظلام، بل هو تحدٍ حقيقي. تحدٍ سيختبر كل ما فيه. تذكر كل ما مر به، كل الإهانات، كل اليأس، وكل القوة التي اكتسبها. لم يعد ذلك الشاب العاطل الذي يخشى الظروف. هو الآن كائن أثيري، يمتلك طاقة الكون.

"انا مستعد." قال تميم، بصوت ثابت، عازم. وخطا أولى خطواته نحو الظلام الدامس، تاركًا خلفه النور المتوهج لأثيريا، متوجهًا إلى عمق المجهول، حيث ينتظره مصيره الحقيقي.

(الصفحة ٢١)

ابتلع الظلام الدامس تميم بمجرد أن تجاوز عتبة الباب. لم يكن مجرد ظلام بصري، بل كان ظلامًا حسيًا. لم يسمع صوتًا، ولا شعر بنسيم، ولا حتى برائحة الأثير المألوفة. كان الفراغ مطلقًا، وكأن كل حواسه قد انطفأت فجأة. شعر وكأنه قد سقط في بئر لا قاع له، أو أنه تاه في اللاوجود.

تسلل الخوف إلى قلبه للمرة الأولى منذ وصوله إلى أثيريا. هذا الظلام يختلف عن أي ظلام رآه من قبل. ظلام يعميك، ويصمك، ويجردك من كل شيء. تذكر لحظات اليأس في القاهرة، كيف كان يشعر بالضياع في زحامها. هنا، الضياع كان أعمق، أكثر وحشية.

حاول تميم أن يشكل كرة من الضوء بين يديه، كما تدرب مع زين. ركز، وبذل كل طاقته، لكن لا شيء حدث. كانت يداه فارغتين، لا تتوهجان بأي ضوء. شعر بالهلع. هل فقد قدراته؟ هل هذه هي خدعة؟

"لا تستسلم للظلام يا تميم،" تردد صوت زين فجأة في عقله، كأنه صدى بعيد. "الظلام ليس غياب الضوء، بل هو غياب الإرادة. عليك أن تستمد الضوء من داخلك. ليس من الأثير الخارجي، بل من روحك."

أخذ تميم نفسًا عميقًا. روحك؟ كيف يستمد الضوء من روحه؟ تذكر كلمات الحكماء عن "القيمة الحقيقية"، وعن "بذرة التغيير" بداخله. حاول أن يركز على هذه البذرة، على الشغف الذي اكتسبه، على الإصرار الذي نبت فيه.

أغمض عينيه، وحاول أن يتصل بطاقته الداخلية. لم يحاول أن يشكل ضوءًا ماديًا، بل تخيل ضوءًا ينبع من قلبه، ضوءًا روحيًا. تخيل هذا الضوء ينمو، يتوسع، يملأ جسده بالكامل.

وببطء شديد، بدأ يحدث شيء ما. لم يكن ضوءًا ساطعًا يضيء الفراغ حوله، بل كان توهجًا خافتًا، دافئًا، ينبع من جسد تميم نفسه. كان توهجًا أزرق ناعمًا، يشبه ضوء النجوم البعيدة. كلما ركز تميم أكثر، كلما زاد التوهج، وأصبح محيطه أكثر وضوحًا.

بدأ يرى. لم يكن يرى جدرانًا أو أرضًا بالمعنى المادي، بل كان يرى تدفقات من الطاقة الخفية، خطوطًا مضيئة تسبح في الفراغ، وكأنها خيوط عنكبوت كونية. أدرك أن هذه هي تيارات الأثير التي تعلم كيف يشعر بها، لكنها هنا كانت خفية، غير مرئية للعين المجردة.

"هذه هي خريطة طريقك يا تميم،" تردد صوت زين مرة أخرى. "هذه هي مسارات الأثير التي ستوصلك إلى النهاية. اتبعها. لا تخف من المجهول. كل خطوة هي خطوة نحو قيمتك الحقيقية."

شعر تميم بقوة هائلة تنبع من داخله. لم يكن يعتمد على ضوء خارجي، بل على نوره الخاص. بدأ يتبع تلك الخطوط المضيئة الخفية، يتحرك في الظلام، وكل خطوة كانت تؤكد له أنه يمتلك القدرة على مواجهة أي تحدٍ. هذه ليست مجرد قوة الأثير، بل هي قوة الروح، قوة الإرادة، قوة الثقة بالنفس. لقد بدأ يفهم معنى "القيمة" الحقيقية في هذا العالم الجديد، قيمة لا يراها إلا من يجرؤ على مواجهة ظلامه الداخلي.

(الصفحة ٢٢)

كانت تلك الخطوط المضيئة، الخفية للعين العادية، هي دليله الوحيد في هذا الفراغ المطبق. كانت تتشابك وتتفرع، ترسم أمامه دروبًا لا نهائية، كأنها متاهة كونية. اعتمد تميم كليًا على إحساسه الداخلي، على تلك القدرة الجديدة التي اكتسبها على رؤية الطاقة. كلما ركز أكثر، كلما أصبحت الخطوط أكثر وضوحًا، وأكثر إشراقًا.

شعر تميم بأن الظلام من حوله ليس مجرد غياب للضوء، بل هو كيان حي، يتنفس، يحاول أن يختبره. كانت هناك همسات خفيفة تتردد في أذنه الداخلية، همسات تحاول أن تزرع الشك في قلبه: "عد... أنت لا تنتمي إلى هنا... أنت ضعيف... عاطل..."

تلك الكلمات كانت كالسياط التي تنهال على روحه، كلمات تذكرته بالماضي الذي هرب منه. لكن تميم لم يستسلم. أخذ نفسًا عميقًا، وركز على توهجه الداخلي. "أنا لست عاطلًا!" صرخ في عقله، صرخة صامتة لكنها مدوية. "أنا كائن من أثيريا! أنا أمتلك القوة! أنا أمتلك القيمة!"

كلما قاوم تلك الهمسات، كلما ازداد توهجه الداخلي. كانت الخطوط المضيئة تتفاعل مع إرادته، تصبح أكثر إشراقًا، وكأنها تدعمه. استمر في السير، يتبع تلك المسارات التي كانت تلتف وتتلوى، تارة صعودًا، وتارة هبوطًا، كأنه يتسلق جبلًا من الأثير.

بعد ما بدا وكأنه دهور من السير في هذا الظلام، بدأ تميم يلاحظ تغيرًا طفيفًا. لم يكن ضوءًا، بل كان شعورًا بالضغط. الهواء من حوله أصبح أكثر كثافة، وشعر بتيار من الطاقة يتدفق في الاتجاه المعاكس لتدفق الخطوط التي يتبعها.

توقف تميم للحظة، وحاول أن يفهم ما يحدث. تذكر دروس زين عن التيارات الأثيرية. هذا التيار المعاكس كان يشير إلى نقطة تجمع، نقطة قوة. ركز، وحاول أن يتبع هذا التيار المعاكس. كانت الخطوط المضيئة تتوهج بقوة أكبر عند نقطة تجمع التيار.

وبالفعل، بعد بضع خطوات أخرى، توقف تميم. أمامه، لم تكن هناك جدران أو أبواب، بل كان هناك فراغ أكبر، وكأن كل الأثير في هذا المكان يتجمع في نقطة واحدة. وفي قلب هذا التجمع، بدأ يظهر شيء ما.

كان نقطة صغيرة من الضوء، خافتة في البداية، ثم ازدادت توهجًا ببطء. لم تكن هذه النقطة من الضوء مثل توهج تميم الداخلي، بل كانت ضوءًا خارجيًا، ساطعًا، لكنه لم يكن مؤذيًا للعين. كلما زاد التوهج، كلما بدأ شكل يتضح في قلب هذا الضوء.

شكل لم يتوقعه تميم أبدًا. لم يكن كائنًا، ولا مبنى، بل كان "بوابة". لكنها ليست البوابة التي ابتلعته في القاهرة. كانت هذه البوابة مصنوعة من الضوء النقي، تتوهج بألوان قوس قزح، وتدور ببطء حول محورها، وكأنها نافذة على عوالم لا حصر لها.

شعر تميم بنبضات قوية في قلبه. هل هذا هو مخرج؟ هل هذا هو نهاية الاختبار؟ تذكر كلمات زين عن "القيمة الحقيقية". هل وجدها؟

وبينما كان يحدق في البوابة، سمع صوتًا. لم يكن صوت زين، بل كان صوتًا عميقًا، يتردد في أعماق روحه، صوت يشبه صوت الكون نفسه. "لقد اجتزت الاختبار يا تميم. لقد وجدت النور في الظلام، والقوة في اليأس. لقد أثبت أن قيمتك لا تقاس بماديات عالمك القديم، بل بنور روحك."

تقدم تميم نحو البوابة، خطى ثابتة، واثقة. لم يعد خائفًا من المجهول، فقد تعلم كيف يجد طريقه في أعمق الظلام. كانت البوابة تناديه، تدعوه إلى ما هو أبعد.

(الصفحة ٢٣)

مد تميم يده نحو البوابة المتوهجة، والتي كانت تدور ببطء، وكأنها تدعوه إلى ما ورائها. شعر بدفء لطيف يغمر راحت يده عندما لمس سطحها المضيء. لم يكن هناك ملمس مادي، بل شعور بالتدفق، كأن يده قد اندمجت مع الأثير النقي.

في تلك اللحظة، تدفقت صور مذهلة إلى عقله. لم تكن صورًا لعالم آخر، بل كانت صورًا لعوالم متعددة، مجرات لا حصر لها، كواكب تتلألأ بألوان لم يرها، حضارات متقدمة، وأخرى في بدايتها. رأى كائنات مختلفة تمامًا عن أي شيء تخيله، تعيش في بيئات متنوعة، وتتفاعل مع الأثير بطرق لم يدركها. شعر وكأنه قد أصبح جزءًا من هذا النسيج الكوني الواسع، وأن كل تلك العوالم أصبحت في متناول يده.

"هذه هي 'بوابة العوالم'، يا تميم،" تردد الصوت الكوني في روحه، صوت أكثر وضوحًا وقوة هذه المرة. "لقد اجتزت اختبار الظلام، وأثبت أنك أهل لولوج هذه البوابة. هنا، يمكنك أن تختار مصيرك. يمكنك أن تصبح مستكشفًا للعوالم، أو حارسًا للأبعاد، أو معلمًا لأسرار الأثير. الخيار لك، يا من وجدت قيمته الحقيقية."

شعر تميم بتدفق هائل من الطاقة يمر عبر جسده. لم يكن الأمر مجرد قوة، بل شعور بالحرية المطلقة. لم يعد مقيدًا بحدود عالم واحد، أو بمفاهيم "عاطل" أو "ناجح". أصبح كيانًا كونيًا، يمتلك القدرة على الاختيار، وعلى التأثير في مصير عوالم.

تذكر لحظات اليأس في القاهرة، كيف كان يشعر بأنه محبوس في قفص. الآن، كان الكون كله أمامه، يفتح ذراعيه ليحتضنه. تذكر ليلى، ووالدها. شعر للحظة بحزن خفيف، ثم تلاشى. لم يكن هذا حزنًا على خسارة، بل كان إدراكًا بأن طريقه قد تفرع، وأن مصيره أصبح أبعد من أن تحتويه مفاهيم عالمهم.

نظر تميم إلى البوابة، ثم إلى التوهج الأزرق الذي كان ينبع منه. أدرك أن هذا التوهج لم يكن مجرد ضوء، بل كان طاقته الخاصة، طاقة روحه التي نضجت واكتملت.

"أنا أختار..." قال تميم بصوت ثابت، قوي، ليس لأنه كان يتحدث، بل لأن كل ذرة في كيانه كانت تنطق بهذا الاختيار. "أختار أن أكون مستكشفًا للعوالم. أن أتعلم كل أسرار الأثير، وأن أشارك هذه المعرفة مع من يستحقها. أختار أن أكون جسرًا بين العوالم، وأن أكون الضوء في الظلام."

بمجرد أن نطق تميم بكلماته، اهتزت البوابة بعنف، وتوهجت بألوان أكثر إشراقًا، ثم بدأت في الدوران بسرعة هائلة. لم يكن هناك ألم، بل شعور بالتدفق السريع، وكأن كل شيء من حوله قد تحول إلى تيار من الضوء.

شعر تميم وكأنه ينسحب إلى قلب البوابة، إلى عالم آخر. لم تكن هذه هي البوابة التي ابتلعته في الشارع الجانبي المظلم، بل كانت بوابة صنعها هو بنفسه، بإرادته، وبقيمته الحقيقية.

عندما استقرت حواسه مرة أخرى، وجد نفسه يقف على أرض صلبة، لكنها ليست كأرض أثيريا. كانت هذه الأرض ذات لون قرمزي داكن، والسماء فوقه كانت مزيجًا من الألوان الغريبة، لا شمس ولا قمر، بل كواكب عملاقة تتدلى في الأفق، تتوهج بضوء خاص بها. الهواء كان رقيقًا، يحمل رائحة معدنية غريبة.

كانت البيئة مختلفة تمامًا عن أثيريا. هنا، لم تكن هناك مبانٍ شفافة أو جداول مضيئة. كانت هناك تضاريس وعرة، صخور عملاقة بأشكال غريبة، ونباتات زهرية ذات ألوان حادة. ولكن، ما أثار دهشته حقًا، هي الكائنات التي رآها أمامه. لم تكن كائنات مضيئة مثل "المتوهجين"، بل كانت كائنات ذات أجساد صلبة، لكنها كانت مختلفة عن البشر. كانت ذات قوام رفيع، وعيون كبيرة متوهجة، تتنقل بخفة بين الصخور.

"أهلاً بك يا مستكشف العوالم،" تردد صوت كوني في عقله، صوت البوابة. "لقد بدأت رحلتك الحقيقية. هذه هي 'فاران'، عالم الرمال القرمزية. هنا، ستواجه تحديات جديدة، وستكتشف أسرارًا لم تُكشف من قبل. تذكر قيمتك يا تميم. تذكر الضوء الذي تحمله في روحك."

نظر تميم إلى الكائنات، ثم إلى يديه التي كانت لا تزال تشع بضوء أزرق خافت. ابتسم. هذه هي البداية. لقد وجد قيمته الحقيقية. لم يعد عاطلًا، بل مستكشفًا للعوالم، كائنًا أثيريًا يمتلك القدرة على التغيير، والتعلم، وأن يكون جسرًا بين العوالم. رحلته بدأت للتو.

(الصفحة ٢٤)

كانت رياح فاران، التي تحمل عبيرًا معدنيًا غريبًا، تداعب وجه تميم، فتذكّره أنه ليس في حلم، بل في واقع جديد، أكثر غرابة وإثارة من أي شيء عاشه. الكائنات ذات الأجساد النحيلة والعينين المتوهجتين، والتي لم تكن مضيئة كـ"المتوهجين"، كانت تتنقل بخفة بين الصخور القرمزية، وكأنها تتراقص مع الريح. لم تكن تعابير وجوهها واضحة، لكن تميم شعر بأنها تنظر إليه بفضول، وربما بشيء من الحذر.

"أين أنت يا تميم؟" لم تكن هذه كلمات، بل كانت فكرة تتردد في عقله، صوت حكيم البوابة. "لقد وصلت إلى 'فاران'، عالم حيث الأثير يتكثف بشكل مختلف، وحيث الحياة تتخذ أشكالًا غير مألوفة. هدفك هنا هو اكتشاف، فهم، ومساعدة."

شعر تميم بارتفاع المعنويات. "اكتشاف، فهم، ومساعدة." هذه كانت الكلمات التي تحدد مصيره الجديد. نظر إلى الكائنات التي كانت تبتعد عنه ببطء. "كيف أبدأ؟" سأل تميم في عقله، متوجهًا للبوابة الكونية التي لا يراها الآن، لكنه يعلم أنها تسمعه.

"ابدأ بما تعلمته،" تردد صوت البوابة. "الأثير هو لغتك. انشر نورك، ودعهم يرون من أنت."

أخذ تميم نفسًا عميقًا. تذكر تدريباته مع زين، وكيف كان يشكل الأثير. مد يديه أمامه، وبدأ يركز. تخيل كرة من الضوء الأزرق تتشكل بين راحته، تلك الكرة التي أصبحت جزءًا منه. بدأت الكرة بالنمو، وأصبحت أكبر وأكثر إشراقًا، تطلق نبضات من الضوء في الهواء المحيط.

توقفت الكائنات النحيلة عن حركتها، والتفتت نحوه ببطء. كانت عيونهم المتوهجة تتسع، وكأنهم يرون شيئًا خارقًا للعادة. بعضهم اقترب بحذر، بينما ظل الآخرون على بعد مسافة، يراقبون المشهد بترقب.

"يا له من ضوء!" تردد صوت في عقل تميم، صوت مختلف عن صوت البوابة. كان صوتًا رقيقًا، يحمل نبرة من الدهشة. "لم نر ضوءًا كهذا منذ قرون!"

نظر تميم إلى مصدر الصوت. كان كائنًا نحيلًا، أطول بقليل من الآخرين، وعيناه المتوهجتان كانت تنظران إليه بفضول شديد. مد يده نحو تميم، إيماءة دعوة للسلام.

"مرحبًا بك يا قادم من الأبعاد،" تردد صوت الكائن في عقل تميم، بصوت يحمل نبرة من الرهبة. "أنا 'أليرا'. لم يأتِ أحد من عالمكم بهذه القوة منذ أن انقطع جسر الأثير."

شعر تميم بالفضول يزداد. "جسر الأثير؟" سأل تميم في عقله.

"نعم،" أجابت أليرا. "كان هناك زمن، منذ آلاف السنين، حيث كانت العوالم تتصل ببعضها البعض من خلال شبكة من جسور الأثير. كانت هذه الجسور تسمح بتبادل المعرفة والطاقة والحياة. لكن في إحدى الفترات، اندلع صراع كبير بين العوالم، صراع على الطاقة، على السيطرة. هذا الصراع أدى إلى تدمير الجسور، وانهيار الحضارة الكونية. ومنذ ذلك الحين، أصبحت كل العوالم معزولة، كل عالم يواجه مصيره وحده."

"لكن هذا يمكن أن يتغير،" قال تميم، وعيناه تلمعان بتصميم. "إذا كانت 'أثيريا' لا تزال موجودة، وإذا كنت أنا هنا، فهذا يعني أن الأمل لم يمت. يمكننا إعادة بناء الجسور."

نظرت أليرا إليه بتأمل. "لا يمكنك فعلها بمفردك يا تميم. إعادة بناء جسر الأثير يتطلب ليس فقط القوة، بل الفهم العميق لـ 'نواة الوجود'، وهي النقطة التي تتلاقى فيها كل طاقات الكون. ولا يوجد كائن حي في 'فاران' يعرف أين تقع هذه النواة، أو كيف يتم الوصول إليها."

شعر تميم بالتحدي يزداد. "إذن، دعيني أساعدك في إيجادها. سأستخدم كل ما تعلمته، وسأبحث عن هذه النواة. أين نبدأ؟"

تقدمت أليرا نحو تميم، ومدت يدها المضيئة. "ابدأ هنا. هنا، في قلب 'فاران'. سأقودك إلى أسرار أرضنا، إلى الأماكن التي قد تحمل مفتاح 'نواة الوجود'. لكن عليك أن تعلم، الطريق محفوف بالمخاطر. 'فاران' عالم قاسٍ، وليس كل من يسعى إلى أسرارها يعود."

ابتسم تميم ابتسامة واثقة. "أنا لست غريبًا على المخاطر يا أليرا. لقد تركت عالمًا كاملاً خلفي لأجد قيمتي. والآن، هذه القيمة مرتبطة بمستقبل عالمكم."

وبدأ تميم رحلته في "فاران"، ليس كمستكشف فحسب، بل كمخلص، يحمل أمل عالم بأكمله على كتفيه، في رحلة لن تحدد مصيره فحسب، بل مصير عوالم بأكملها.

(الصفحة ٢٥)

الى هنا نكون انتهينا من الجزء الاول الى اللقاء فى الجزء الثاني

مختارات
مختارات

1تم تحديث

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon