جثة معلقة

روما الساعة التاسعة مساءا .

قصر آل دي لاتيرلا.

هبط ريكاردو من السيارة بخطوات ثابتة، نظره مستقيم وصوته يحمل نبرة لا تقبل الجدال وهو يقول:

"آريا، يجب أن تبتعدي عن هذا الفتى."

لم تجبه، بل اكتفت بالتحديق في ظهره بصمت، وكأنها تزن كلماته في عقلها.

آريا دي لاتيرلا لا تقترب من أحد دون سبب، دون دافع، دون سرّ مخفي بين ثنايا اهتمامها.

وريكاردو يعرف ذلك جيدًا... لكن جاستن دينيسون؟ لا، هذا الرجل ليس من النوع الذي يُستهان به.

آريا، مثل قطة شوارع سيئة السمعة، تعشق العبث، تمشي بخطوات مترنحة على الحافة بين اللعب والخطر، تلامس الخيوط بيدها الرقيقة، وكأنها تختبر مدى قوتها وقدرتها على التحكّم بها.

"ولماذا قد أبتعد عنه؟ إنه يعجبني." نطقت بذلك وهي تنزل من السيارة، صوتها يحمل خفة مستفزة.

توقف ريكاردو للحظة قبل أن يتابع سيره نحو القصر، يقول دون أن ينظر إليها:

"إنه مختل، آريا... ونحن لا نحتاج إلى المزيد من المشاكل."

مشاكل...

كل شيء في حياتها كان مشكلة بشكل أو بآخر، حتى هذا القصر الذي يقفان أمامه الآن.

قصر آل دي لاتيرلا، القابع في قلب روما، في أفخم شارع بها، لم يكن مجرد منزل، بل كان إرثًا، ساحة معارك خفية، وحصنًا لعائلة تملأها الأسرار.

آريا كانت قد عادت تَوًّا من نيويورك برفقة ابن عمها ورفيق دربها، ريكاردو دي لاتيرلا.

بينهما صداقة ليست عادية، شراكة ليست تقليدية، علاقة لا تحتاج إلى كلمات كثيرة لفهمها.

كانا يعرفان بعضهما كما يعرف كل منهما نفسه، وريكاردو، أكثر من أي شخص آخر، يدرك أن آريا لم تكن ولن تكون فتاة عادية...

ولكن، أي فتاة ستكون عادية وهي تنتمي إلى مافيا إيطالية؟

آريا دي لاتيرلا...

نجمة روما الساطعة، اسمها كان يتردد في الصحف، في المجلات، في أحاديث المجتمع المخملي.

جميلة بشكل آسر، وذكية بشكل خطير.

تتألق في عالم الموضة والتمثيل، كل شيء يتعلق بها كان يدور حول الضوء، حول السطوع، حول البروز.

لكن علاقتها بجاستن دينيسون؟

هذه العلاقة لم تكن تبشر بالخير، خاصةً في نظر ريكاردو.

دينيسون، الاسم الذي يدير المافيا الإسبانية من مدريد، ليس مجرد رجل آخر في حياة آريا، بل ورقة لعب قد تنقلب ضدهم في أي لحظة.

وقفت آريا أمام بوابة قصرها، نظراتها تجولت على ملامحه التي تحمل بصمات والدتها الغالية.

الواجهة الكريمية بلونها الهادئ، النوافذ الطويلة المستديرة التي تعكس عشق والدتها للضوء وللأمل.

كل تفصيلة هنا كانت تنتمي إليها، لروحها، لفنها، لحلمها الذي لم يكتمل...

ثم هناك الأعمدة البيضاء الضخمة التي تزيّن المدخل، منحوتة بنقوش رومانية، ورود وأساطير آلهة، وكأنها بوابة لمكان خارج الزمن.

ضغطت آريا على الجرس الذهبي، ليصدح صوته داخل القصر الفخم.

لم يستغرق الأمر سوى لحظات حتى فُتح الباب، وظهرت الخادمة، وجهها كان شاحبًا، نظراتها مذعورة وهي تهمس باحترام:

"مرحبًا بعودتكِ، آنسة. وأنت أيضًا، سيدي."

التقت عينا آريا وريكاردو في نفس اللحظة، الحيرة تملأ نظراتهما.

هذه ليست مجرد تحية تقليدية، هناك شيء غير طبيعي يحدث.

دخلا معًا...

نفس الخطوة، نفس الهالة، نفس النظرة، نفس الوجهة.

وفي البهو الكبير، كان هناك صوتٌ غاضبٌ يصرخ.

توقفت خطواتهما عند الباب الذي كان نصف مفتوح، تبادلا نظرة قصيرة قبل أن يدفعاه ويدخلا.

الصمت...

بمجرد ظهورهما، خفتت الأصوات، والتفتت جميع الأنظار إليهما.

آريا رفعت حاجبها وهي تتفحص المشهد.

عمتها إيلينورا، تلك التي لا تأتي إلا ومعها كارثة أو مناسبة غير مرغوبة.

جدها، الرجل الذي لا يسهر حتى هذا الوقت عادةً.

جدتها، ملامحها متجهمة أكثر من المعتاد.

عمها وزوجته، وأولادهما جميعًا مجتمعون.

لكن الأهم...

والدها، أنطونيو دي لاتيرلا، واقف قرب النافذة، ظهره منحني قليلاً وكأن الحمل ثقيل على كتفيه.

حين التقت نظراته بعينيها، لم يقل سوى جملة واحدة، صوته ثابت لكنه يحمل شيئًا خفيًا:

"آريا، أين لوسيانا؟"

عقدت حاجبها وردّت فورًا:

"تركناها في نيويورك، قالت إنها ستزور صديقةً لها ثم تلحق بنا بعد أيام."

"قالت صديقة؟"

جاء صوت إيلينورا ساخرًا، نبرة جعلت آريا تضيق عينيها بانزعاج.

"هل يمكن أن يشرح لي أحد ما الذي يجري؟" سألت، نفاد الصبر ظاهر في صوتها.

لكنها لم تكن مستعدة لما ستسمعه بعد ذلك...

تحدث أنطونيو ببرود مخيف:

"ما حدث، يا آريا، هو أن عمتكِ العزيزة فجّرت منزل خطيبة جاكسون ديفارو ليلة البارحة."

تسارعت أنفاسها، نظرت إليه بصدمة حقيقية:

"هي فعلت ماذا؟!"

ريكاردو بدوره، حدّق في والدها غير مصدّق، ناطقًا بالكلمة نفسها تقريبًا.

"كما سمعتما... عمتكما الرزينة ارتكبت خطأً فادحًا قد يضعنا في مواجهة مباشرة مع آل ديفارو."

كان المتحدث هذه المرة هو ألفريدو، عمّها.

جلست آريا ببطء، وكأن قدميها لم تعودا قادرتين على حملها، عيناها تدوران بين الجميع.

"كيف حدث هذا؟" نطقت بصوت مرتبك.

إيلينورا، التي كانت ترتشف قهوتها ببرود، قالت بلا اكتراث:

"كانت غاضبة من موضوع الخطبة."

"أخبرتكَ أنها كانت فكرة سيئة." تمتمت الجدة ماري، التي لم تكن تؤيد الخطبة منذ البداية.

"يبدو أنها تحبه." علّقت آريدا، والدة ريكاردو، بهدوء.

"أمي، بحقكِ، منذ متى وعمتنا لوسيانا تحب شخصًا غير نفسها؟" حاول ريكاردو كبح سخرية صوته لكنه لم ينجح تمامًا.

إيلينورا أومأت برأسها موافقة:

"ريكاردو على حق، رفض جاكسون لفكرة الخطبة أصابها في غرورها... لوسيانا لم يُرفض لها طلب من قبل."

ماري، الجدة العجوز، همست بغيظ حقيقي:

"لتعد فقط إلى المنزل وسألقّنها درسًا."

"أنا سأتصل بها." قال ألفريدو، ثم بعد لحظات من الانتظار، أضاف بقلق واضح:

"هاتفها مغلق."

في تلك اللحظة، ساد الصمت على الجميع.

لوسيانا لم تكن مجرد امرأة غاضبة...

لوسيانا كانت قنبلة موقوتة.

مواجهة وشرارة تحت الرماد

ساد الصمت لحظة قبل أن تخترقه إيلينورا بنبرة قاطعة:

"لن تجيب أحدًا منكم... هي تعلم أن الكل سيوبخها."

بدت كلماتها كأنها ختمٌ على قدرٍ محتوم. ألقى الجميع نظراتهم نحو الزعيم، الذي تحرك أخيرًا بعد صمت ثقيل، وعيناه تحملان صرامة لا تقبل الجدل. قال بصوت منخفض لكنه مشحون بالتحذير:

"لا أحد يتدخل. حين تعود، سأتصرف معها بنفسي."

لم يتجرأ أحد على معارضته، بل اكتفوا بالتحديق فيه وهو ينسحب من البهو، تاركًا وراءه توترًا لا يُحتمل.

آريا، التي لم تنطق بحرف منذ البداية، ظلت تحدق في الفراغ بصمتٍ قاتم. شيئًا فشيئًا، اشتد التوتر في فكّها قبل أن تنهض، تتحرك نحو غرفتها بخطوات ثابتة لكن ثقيلة، وكأنها تحمل معها حطام مشاعرها المشتعلة.

لم تكن بحاجة للنظر خلفها لتعلم أن ريكاردو قد لحق بها.

الدم يغلي في عروقها

"تلك العاهرة!"

خرجت الشتيمة من بين أسنان آريا وكأنها نصل سكين، بينما دفعت خصلاتها للخلف بحدة، وعيناها تشتعلان غضبًا وهي تحدق في الأفق من الشرفة.

جلس ريكاردو على طرف السرير، ساحبًا نفسًا عميقًا قبل أن يسخر بمرارة:

"لا أصدق أنها خدعتنا بهذه السهولة."

قبضت آريا على هاتفها، أصابعها تبيّن الغضب الذي يعصف بها. ضغطت على زر الاتصال، تنتظر بلهفة، لكن ما جاءها كان أكثر ما يثير سخطها:

"يتعذر الوصول إلى مخاطبكم حاليًا، الرجاء إعادة المحاولة لاحقًا."

ارتفع الهاتف في الهواء قبل أن يصطدم بالجدار بقوة، محطماً إلى قطع متناثرة.

وقفت هناك، تتنفس بسرعة، كل خلية في جسدها كانت تصرخ بالغضب. كل ما كانت تحاول كبحه انفجر في لحظة واحدة، وها هي الآن أمام الجدار، أمام شظايا هاتفها، وأمام خيبتها التي تأبى أن تخمد.

راقبها ريكاردو بصمت، يرى ارتجاف يديها والتوهج القاتم في عينيها، قبل أن يهمس بهدوء، ساحبًا إياها إلى حضنه بحركة هادئة لكن حازمة:

"هاي... آريا، اهدئي."

لكنها لم تهدأ. قبضت على قميصه كما لو كانت تحاول تثبيت نفسها على أرضٍ تنهار تحتها. همست بصوت مخنوق، وكأنها تتجرع طعنةً في القلب:

"لا أصدق أنها فعلتها مجددًا."

مرّر ريكاردو أصابعه في خصلاتها، يبعدها عن وجهها برفق، قائلاً بصوتٍ منخفض:

"عمتنا حمقاء... يجب أن نعتاد على هذا. ليس وكأنها لم تقم بأمور مجنونة من قبل."

لم تجبه، فقط أغلقت عينيها ببطء، محاولًة تهدئة النيران التي تحرق صدرها. أخذت نفسًا عميقًا، ثم آخر. صوت أنفاسها المضطربة بدأ يهدأ، حتى تحول اهتزاز يديها إلى صمت ثقيل.

أجبرت نفسها على الاستقامة، خرجت من أحضانه ببطء، ثم حدقت في الجدار حيث سقط هاتفها.

الآن، وبعد أن انطفأت نيران الغضب الأولية، حل محله شعور آخر... برود هادئ، يشبه البحر بعد العاصفة. لا شيء ينكسر إلا ويُعاد إصلاحه، ولا أحد يعبث معها دون أن يدفع الثمن.

رنَّ إشعارٌ في الغرفة. صوت منخفض، لكنه اخترق هدوءها كطعنة مفاجئة.

نظرت إلى مصدره. هاتفها، رغم كسره، لا يزال ينبض بالحياة، وها هو يضيء بإشعار جديد.

تنهدت ببطء، ركعت والتقطت الهاتف المحطم بأطراف أصابعها. نظرت إلى الشاشة. المرسل؟

ارتفع حاجبها ببرود، ثم سمعت صوت ريكاردو يسأل:

"من؟"

ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيها، لكنها لم تصل إلى عينيها:

"أوه، إنها أليسيا."

لكن ريكاردو لم يكن ساذجًا. مد يده بسرعة، وانتزع الهاتف منها قبل أن تتاح لها فرصة إخفائه.

"ريكاردو!" نبست بصدمة، تحاول استعادة هاتفها.

لكن عينيه كانتا قد التقطتا الاسم على الشاشة:

"جاستن دينيسون."

ثبتت عينيه عليها، وملامحه تحمل مزيجًا من الغضب والخيبة وهو يقول بصوتٍ منخفض لكنه حاد كالنصل

"آريا، بحق الجحيم... ما هو غير المفهوم في كلمة ابتعدي عنه؟!"

رفعت ذقنها بعناد، وانتزعت الهاتف من قبضته بعنف:

"ليس من شأنك، ريكاردو. وإياك أن تفتك هاتفي مجددًا."

لكن الغضب كان يتصاعد بينهما كالشرر، ولم يمنحها فرصة لالتقاط أنفاسها قبل أن ينتزع الهاتف منها مرة أخرى، وبحركة سريعة، ألقاه بقوة على الجدار،

محطِّمًا إياه تمامًا.

حدقت فيه بذهول، فكها متشنج ويداها تتصلبان إلى جانبيها.

"ما اللعنة؟!" صرخت بصدمة.

لكن ريكاردو لم يقل شيئًا. استدار ببساطة وخرج من الغرفة، تاركًا وراءه توترًا يكاد يقطع الهواء.

قبضت آريا على فكيها، ثم أطلقت زفيرًا طويلاً، جسدها كله يرتجف من الغضب.

لكن هذه المرة، لم يكن غضبًا صاخبًا، بل غضبًا بارداً، متقنًا، يحمل معه قرارًا لا تراجع فيه.

استدارت ببطء، خرجت من غرفتها بخطوات واثقة، وتوجهت مباشرة إلى غرفة ريكاردو.

نظرت إلى هاتفه المستقر في الشاحن، التقطته بلا تردد واتصلت بجاستن منه.

"مرحبًا..." همست، تستلقي على سريره، وعيناها تتأملان السقف.

جاءها صوته العميق من الطرف الآخر، خشنًا، كسلاً لكنه يحمل نغمة مستفزة:

"مرحبًا، خطيئتي..."

شعرت بارتعاشة باردة تجتاح عمودها الفقري. الكل ينظر إليها وكأنها نعمة، لكن جاستن؟ يناديها بالخطيئة.

عضت شفتها، وعيناها تتألقان بسخرية:

"خطيئتك ستجعلك تتعفن في الجحيم، جاستن."

"ومن قال أنني لست فيه بالفعل؟"

ابتسمت على كلماته بهدوء، قبل أن تتساءل:

"وصلت إلى إسبانيا؟"

"وصلتِ إلى إيطاليا؟"

ضحكت بخفة، تغلق عينيها: "يمكنك قول ذلك."

اللعبة تبدأ

"اشتقت لك..." همست، تعض شفتها بلطف.

"لا يمكنني قول المثل."

لكنها لم تكن غبية. الصمت في نهاية جملته يعني شيئًا واحدًا... أنه يدخن الآن، أنه يسحب نفسًا من سيجارته بنفس العمق الذي تود هي أن تسحبه من شفتيه.

ابتسمت بمكر، ثم همست بنبرة لعوبة:

"جاستن، إن استمررت في كونك مثيرًا هكذا، سأفعل شئ لن يعجبك ."

أجابها بنبرة مستفزة: "لست متأكدًا من قدرتك على فعلها."

ضحكت، تمشي ببطء نحو الشرفة، وعيناها تلمعان...

خطيئة الليل

كانت واقفة هناك، حيث يتسلل ضوء القمر عبر الستائر البيضاء، فينعكس شاحبًا على بشرتها الناعمة. مررت أصابعها النحيلة ببطء على ثنايا القماش، تشعر بنعومته تحت أناملها. كانت لمستها حالمة، كأنها تتلمس خيطًا وهميًا يصلها بالواقع الذي كادت أن تغرق خارجه.

همست، دون أن ترفع عينيها نحوه: "لِماذا...؟"

صوته كان قريبًا، أقرب مما ينبغي، هامسًا، مشبعًا بثقة قاتلة وسخرية مستفزة:

"لأنكِ لا تستطيعين حتى رفع عينيكِ نحوي، خاصتي."

كان محقًا، وهذا ما جعل شفتيها ترتفعان بابتسامة جانبية، شبه مستفزة، شبه مستسلمة. آريا لم تكن تعرف التردد، لم تكن تعرف الخوف، لم تكن تعرف شيئًا سوى الجرأة والوقاحة. لكن مع جاستن... كان هناك شيء مختلف.

كل شيء فيه ينذر بالخطر.

الوشوم التي تزين بشرته وكأنها تحكي قصصًا لم تُروَ، عيناه الرماديتان اللتان تتسلل إليهما لمعة قاتلة، نبرته العميقة التي تمتص الهواء من حولها، حتى طريقة تدخينه التي تبدو وكأنها طقسٌ مقدس.

كان نوعها المفضل، وكان يعرف ذلك.

رفعت ذقنها ببطء، تحدق في الأفق، بينما الريح تداعب خصلاتها السوداء. همست بصوت هادئ، لكنه محمل بالتحدي الخفي:

"أنت لم ترَ جرأتي بعد، لذا لا تحكم."

استندت إلى حافة الشرفة، عيناها تتابعان السماء الممتدة أمامها، وكأنها تبحث عن شيء هناك، شيء بعيد، مثل المسافة التي تفصلها عنه الآن.

في الخلفية، كانت تسمع صوت أنفاسه وهو يطلق دخان سيجارته ببطء، كأنها نغمة خلفية لمشهدٍ مشحونٍ بالكهرباء.

عبثت آريا بقلادتها، تلك التي تحمل حرف اسمها، وكأنها تحاول تثبيت نفسها في لحظة تهدد بابتلاعها.

"أخشى أنني إن رأيتها، سأقع-"

ارتسمت ابتسامة طفيفة على شفتيها، لكن ما تبقى من جملته جعلها ترمش بسخط، تقلب عينيها بضيق.

"-سأقع في نوبة ضحكٍ جحيمية."

رفعت رأسها ببطء، تلعن سخريته الصريحة. "أيها الوغد..." تمتمت، بينما كان يضحك بهدوء على انزعاجها.

لكن صوته انخفض فجأة، وأصبحت نبرته أكثر نعومة، أكثر دسامة، أكثر... خطورة.

"آريا، لا تقلبي عينيكِ."

تجمدت لوهلة، رمشت ببطء، قبل أن تستدير بارتباك، تتفحص المكان حولها. "انتظر... هل أنت قريب؟! هل أنت في الغرفة معي؟! أو ما شابه؟" نبست بصدمة، تبحث بعينيها في الأرجاء، وكأنها تتوقع أن يخرج من الظلال.

ضحك بخفوت، همهمته كانت رخيمة كأنها تمسح على أعصابها بلذة. "كلا... لكنني أشعر."

شعرت بقشعريرة باردة تسري في جسدها، شيء بين السخرية والرغبة والريبة. جاستن لم يكن من النوع الذي يشعر، أو هكذا كان يُفترض.

"أنت لئيم، جاستي..." همست، اسمُه ينساب من بين شفتيها وكأنه سحرٌ إيطالي منحوتٌ على لسانها الذي يجيد الفرنسية والإيطالية بمهارة.

كان وقع اسمه بصوتها رومانسيًا، مغريًا، تمامًا مثل الطريقة التي كانت تراقب بها زجاج الشرفة، وكأنها تراه من خلاله، وكأن وجوده ينعكس عليها رغم البعد.

"سمعتُ ذلك كثيرًا من قبل." ردّ بنبرة مماثلة، إيطالية صافية، وكأنه يراقبها هو الآخر من مكانه.

رفعت يدها ببطء، تمررها على ثنايا جسدها كما لو كانت تتحسس وجوده فوقها، داخلها، حولها. همست بإغراء خفي:

"إذاً، هل سمعتَ أيضًا أنك وسيم؟"

لم يجب، لكنه همهم، همهمة عميقة، مشبعة بلون الليل، جعلتها تغلق عينيها ببطء، تتذوق رجفة غريبة تسري عبرها.

عضت شفتها، وكأنها تحاول كبح الرعشة التي تسللت إلى صوتها وهي تهمس:

"حين نلتقي مجددًا، أريدك أن تقبلني حتى تنزف شفتي."

لامست شفتها بأطراف أصابعها، تتذكر أثر أسنانه القاسية عليها، كيف تركها متورمة، نابضة، مملوءة بحرارة غير قابلة للإطفاء.

"سأجعلكِ تنزفين... لكن من مكان آخر."

لم تجب، فقط أغلقت عينيها، وسمحت لصوته أن يلتف حولها، كالأفعى، كالإغواء... كجاستن نفسه.

لكنها ضحكت بنعومة، تلك الضحكة التي تحمل في طياتها ألف معنى، ألف فكرة، وألف احتمال. رفعت رأسها ببطء، متلذذة بالإدراك الذي ضرب عقلها كالبرق، بالإثارة التي تخللت أوصالها عند فهمها مقصده القذر جيدًا، جيدًا جدًا.

"جاستي..." همست باسمه، كأنها تتذوقه على لسانها، كأنها تختبر وقعه قبل أن تقذفه بعيدًا. ثم أردفت، بنبرة لعوب، متكاسلة، مشحونة بالغموض:

"سأتصل بك لاحقًا... أو ربما، لن أفعل."

تلاعبت بالكلمات كما تتلاعب بنبضه، كما تتلاعب بمصيرهما.

على الطرف الآخر من الخط، لم يجب، لم يحاول حتى استدراجها، فقط همهم بصوت خفيض، صوت يشبه الليل، يشبه الدخان الذي كان يلتف حول أصابعه.

كان يعلم.

كان يعلم أنها قد تتصل... أو لا.

أغلقت آريا الهاتف، نظرت للشاشة للحظة، ثم رفعت رأسها نحو السماء. النجوم تتلألأ بهدوء، وكأنها تتآمر معها، وكأنها تراقب لعبتها من الأعلى.

ابتسمت.

كانت ليلة مثالية، مثالية للعب، مثالية للخطر... مثالية لهما.

خاصة بعد ما فعلته لوسيانا ،حاولت اريا جاهدة ان تشغل نفسها حتى لا تفكر بقتل عمتها . لان الغضب يجتاحها داخليا الان .

شقت سيارة لامبورغيني سوداء طريقها بسرعة

خاطفة عبر الشارع الرئيسي في روما، صوت المحرك العميق يخرق ضجيج المدينة، يندمج معه لكنه يظل مميزًا، يعلن عن حضوره بقوة.

من خلف نظاراتها الشمسية الفاخرة، حدقت آريا إلى المشهد الحافل أمامها، تمتص تفاصيل العاصمة الخالدة كما لو كانت تستنشق نكهة ماضيها العريق وحاضرها المتوهج.

روما... مدينة الحب، مدينة الحياة.

كانت تمتلك جوًا خاصًا لا يشبه أي مكان آخر. مع اقتراب الصيف، تتغير ألوانها، تتبدل أنفاسها؛ الملابس تصبح أخف، الألوان أكثر جرأة، الأزقة تضج بأحاديث مرتجلة، والمقاهي تعج بروائح الإسبريسو القوية التي تمتزج بعطر الزهور المنعش.

لكن رغم كل هذا الصخب، كانت روما تحمل سحرًا ثابتًا، سحرًا يجعلها مختلفة.

آريا كانت تفخر بكونها إيطالية. ليس فقط لأن إيطاليا موطن الموضة، أو لأنها تحتضن أرقى دور الأزياء العالمية، بل لأنها تدرك أن كل شيء فيها يحمل لمسة من الكمال، من الهندسة المعمارية التي تروي قصص الأباطرة، إلى الهواء نفسه الذي يبدو وكأنه مختلف، أكثر نقاءً، أكثر حياةً.

تنفست بعمق، استنشقت رائحة المدينة التي تعرفها جيدًا.

حتى الهواء في روما له نكهة خاصة.

وضعت آريا أغنيتها المفضلة، وبحركة سلسة، رفعت الصوت إلى أقصى درجة، تاركة الموسيقى تغمرها بالكامل، تعزلها عن صخب الشوارع وضجيج العالم الخارجي. لم يعد هناك سوى إيقاع الأغنية ونبض السرعة.

بحركة واثقة، سحبت صندوق السرعة، ومع دفعة قوية على دواسة الوقود، انطلقت اللامبورغيني السوداء كالسهم عبر شوارع روما، محطمة حدود السرعة كما لو كانت تتحدى قوانين الفيزياء نفسها.

شعرت بالهواء يندفع عبر النوافذ المفتوحة جزئيًا، يعبث بخصلات شعرها اللامعة التي تحررت من قيودها. الحرارة الخفيفة، امتزاج رائحة الأسفلت الساخن بعطرها، وضغط المقود بين يديها، كل ذلك أشعل فيها تلك الرجفة المحببة من الأدرينالين.

كان الأمر مذهلًا. سرقة سيارة ريكاردو لم تكن مجرد لعبة، كانت طقوسًا، لحظة تحرر، مغامرة صغيرة تسرقها من بين يديه في كل مرة، لتمنح نفسها ذلك الشعور بالإثارة المحرمة.

آريا لم تكن تهرب، بل كانت تعيش.

كانت آريا تقود عبر شوارع روما النابضة بالحياة، أنغام أغنيتها المفضلة تصدح في السيارة، لكنها بالكاد كانت تستمع. هاتفها اهتزّ بين يديها، رمت نظرة خاطفة إلى الشاشة قبل أن ترفعه إلى أذنها.

"أوه، أليسيا، لا أستطيع التحدث الآن، أنا في مهمة خطيرة جدًا!" سخرت بصوت مفعم بالحيوية، محاولةً أن تخفي الضيق المتصاعد في داخلها.

على الجانب الآخر، جاءها صوت أليسيا الناعم لكن الحازم:

"آريا، لا تنسي أن تأتي إلى منزلي لاحقًا."

"حسنًا، حسنًا، سأتصل بك لاحقًا." نبست بسرعة قبل أن تنهي المكالمة بضغطة حاسمة، وكأنها تغلق بابًا لا تريد الخوض في تفاصيله الآن.

بمجرد أن انتهت المكالمة، زفرت بعمق وأوقفت السيارة فجأة بجانب الطريق، يدها الحرة ارتفعت إلى جبينها تفركه بإرهاق. الغضب كان يتخمر في صدرها، لكنه لم يكن بسبب أليسيا... بل بسبب شخص آخر تمامًا.

عمتها.

المرأة التي لم تجلب لها سوى الصداع. سافرت إلى نيويورك، وكما كان متوقعًا، تسببت في كارثة جديدة هناك. والآن، عادت إلى إيطاليا دون أن تخبر أحدًا. لا مكالمات، لا تحذيرات، لا إشارات، فقط عادت... وكأن شيئًا لم يكن.

لا أحد يعلم... لا أحد سوى آريا.

قبضت على المقود بشدة، مفاصل أصابعها تبيض للحظة. كانت تعلم أن هذه العائلة ليست سهلة، وأن عمتها بالتحديد ليست شخصًا يمكن تجاهله. لذا، كان عليها أن تقرر... كيف ستتعامل مع هذا؟

لكن قبل ذلك، كانت بحاجة إلى قهوة قوية، وربما... خطة جيدة.

نزلت آريا من السيارة، ودفعت باب المقهى الزجاجي بخفة، لتغمرها رائحة القهوة الممزوجة بنسيم البحر المنعش.

كان المكان ينبض بأجواء الصيف، الجدران المفتوحة تكشف عن إطلالة ساحرة على البحر الأزرق الممتد حتى الأفق، حيث تراقصت أشعة الشمس فوق سطح الماء برقة. صوت الأمواج المتكسرة اختلط بنغمات الموسيقى الإيطالية الهادئة، لكنه لم يكن كافيًا لتشتيت أفكارها.

كانت تبحث عنها.

مررت عيناها بسرعة بين الطاولات، لم تكن مضطرة للبحث طويلاً.

هناك، عند الطاولة القريبة من الحافة، حيث يلامس الضوء الذهبي أطراف شعرها، جلست المرأة التي تعرفها جيدًا...

امرأة بدت وكأنها انعكاس مشوه لها، أو ربما النسخة الأصلية التي خرجت منها شخصيتها الجامحة. سروال جلدي أسود يعانق ساقيها الطويلتين، جاكيت بنفس الخامة فوق سترة بيضاء، ونظارات شمسية تخفي نظرتها التي لا تحتاج إلى تفسير.

"لوسيانا دي لاتيرلا."

المرأة التي لا يُفترض أن تكون هنا. المرأة التي خلفت وراءها فوضى في نيويورك، والتي لم يخبرها أحد بعودتها... لكن آريا عرفت.

شدّت قبضتها للحظة، قبل أن تأخذ نفسًا عميقًا وتتقدم نحو الطاولة، خطواتها محسوبة، لكنها محملة بغضب لم يهدأ بعد.

تقدمت آريا نحو الطاولة، خطواتها كانت واثقة، لكن بداخلها عاصفة من الغضب تتأجج.

ما إن وصلت، سحبت الكرسي بقوة وجلست بسرعة، لم تمنح نفسها فرصة لتهدأ، بل همست بصوت منخفض لكنه مليء بالغضب الحقيقي:

"أنتِ أكبر عاهرة رأيتها في حياتي، لوسيانا."

الكلمات خرجت منها كسمّ، حادة، بلا تردد. لم تكن تفكر حتى في ضبط نفسها، الغضب كان أقوى من أي تصنع.

لكن المرأة أمامها؟ لم تحرك ساكنًا.

لم تكن ملامح لوسيانا واضحة خلف نظارات فيرساتشي السوداء، لكنها ارتشفت من قهوتها ببطء، وبصوت عالٍ مستفز، ثم استرخت في مقعدها وكأنها لم تفعل شيئًا على الإطلاق.

شعرت آريا بنار تشتعل أكثر داخلها. قبضت على فكها بقوة، كأنها تحاول منع نفسها من الانفجار.

"عمتي، أنا أكلمك." الكلمات خرجت من بين أسنانها، كل حرف كان بصقة من الغضب.

أخيرًا، وضعت لوسيانا كوب القهوة على الطاولة، سحبت حقيبتها الفاخرة ببطء، ثم همست بصوت بارد، غير مكترث:

"وأنا أتجاهلكِ، آريا."

امتدت يد آريا بسرعة، وسحبت الحقيبة من يد لوسيانا بغضبٍ مشتعِل. لم تهتم لنظرات الزبائن الفضوليّة في المقهى، ولم تفكر حتى في تهدئة صوتها، كل شيء فيها كان يغلي، قلبها ينبض بقوة بين أضلاعها.

"كيف تتجرّئين على إخفاء الأمر عني، هاه؟!" صاحت، عيناها تلمعان بالقهر. "كيف خدعتني وقلتِ إنكِ ستسافرين معنا من أجل صديقتك؟! أعني... لو كنتِ قد أخبرتني أنكِ تخططين لحرق منزل تلك العاهرة، لكنتُ ساعدتكِ!"

كان صوتها مشحونًا بالغضب، لكنه كان يحمل خيبة أيضًا.

هي ولوسيانا... كانتا أكثر من مجرد عمة وابنة أخ، كانتا أعز صديقتين، لا تخفيان شيئًا عن بعضهما، تعرفان كل الأسرار، كل الأفعال المجنونة، كل الحماقات... إلا هذه المرة.

إخفاء لوسيانا لهذا الأمر عنها؟ كان خيانة في نظر آريا.

لكن لوسيانا لم تتأثر بغضبها، على العكس، ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيها المرسومتين بعناية.

"حقًا؟" همست، وسحبت نظارتها السوداء ببطء، كاشفةً عن عينيها الخضراء العميقة التي توهجت ببريق ساخر.

مالت برأسها قليلاً، ثم فجأة...

"وهل أخبرتِني أنتِ عن علاقتكِ المريبة بجاستن دينيسون؟"

تجمدت آريا.

لكن لوسيانا لم تمنحها فرصة للهرب من الصدمة، تحركت بسرعة، أمسكت بياقة قميصها، وسحبتها نحوها بقوة، عيناها الخضراوان احمرّتا بالغضب المكتوم.

الجديد

Comments

قمر 🎀

قمر 🎀

هاي 🙋‍♀️

2025-05-16

0

قمر 🎀

قمر 🎀

.

2025-05-16

0

قمر 🎀

قمر 🎀

😭

2025-05-16

0

الكل
مختارات
مختارات

2تم تحديث

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon