تسلّل أول خيطٍ ذهبي من الشمس ليخترق نافذة القصر. بدا وكأنه يعرف وجهته، وكأنّه أتى ليؤدي مهمة تأخّر عنها لشهور، وربما لسنوات. تسلّل الضوء بخفة ليرتسم على وجهها بعناية… كانت نائمة كالملاك، أو ربما كالجثة. ملامحها لوحة فنية رُسمت بإتقان، لكنها في تلك اللحظة بدت شاحبة، وشفتيها باهتة، ووجهها خالٍ من الحياة… أو من المشاعر.
في الغرفة نفسها، وقفت سهام، كعادتها، تتأمّل الفتاة النائمة. كانت تتحسّر في داخلها على ذلك الجمال المُهمَل، الملقى وسط أجهزة لا تتوقف عن إصدار أصوات مألوفة تحفظها عن ظهر قلب.
سهام ممرضة شابة، دفعتها الحياة إلى العمل مبكرًا، لكن القدر ابتسم لها منذ ثلاث سنوات عندما عُرض عليها أن تعتني بتلك الفتاة مقابل مبلغ مادي مجزٍ. كانت تزور القصر يوميًا، لا تدري ما الذي تفعله تحديدًا، سوى الانتظار… كانت حالة الفتاة ميؤوسًا منها، ومع ذلك، لم يتخلَّ أهلها عنها يومًا.
كانت تراقب تلك الأجهزة التي تبقيها حيّة، تمسك بالحياة كمن يمسك الهواء… تمسّك كاذب. لطالما شعرت سهام بالشفقة تجاهها، فهي تبدو صغيرة جدًا على كل هذا الصمت. لكنها كانت تقول لنفسها، بنبرة فيها من الحسرة ما يكفي، أن الفتاة على الأقل عاشت مدللة في قصر كبير وسط عائلة تحبها. أما سهام، فلم تجد للحب طريقًا في حياتها قط. حتى عندما تزوجت، ظنّت أن الحب سيأتي، لكنه لم يفعل. اعتادت الحرمان، فصار جزءًا منها.
ذلك اليوم لم يكن عاديًا.
بينما كانت تراقب الوقت بملل، مترقبة نهاية دوامها… تحركت يد الفتاة ببطء شديد. لم تصدق عيناها، ظنّت أن خيالها يلعب بها. لكنها لم تكن تتوهّم… الفتاة تستيقظ.
______________________
في مكانٍ آخر من ذلك القصرِ الغامضِ:
وقف آدم أمام المرآة، يرتدي بدلةً أنيقة، يعقدُ ربطةَ العنقِ بإحكام. نظر إلى انعكاسِ صورته في المرآة، وداخله مشاعرٌ مضطربة. شعر أنّه يختنق، عجز الهواءُ عن الولوجِ إلى رئتَيْه، كأنّ الهواءَ يخشاه، يخشى أن يتلوّثَ برئتَيْه.
أزال ربطةَ عنقه بعنف، وألقاها على الكرسيِّ بإهمال، ثمّ تنهد قليلًا.
ظلّ يُكرّر في عقله:
أنسَ، أنسَ يا آدم.
لكنّ عقله لم يرحمه، بل ضحك بسخريةٍ لتلك الفكرة. أعاد رأسه إلى ظهر الكرسيّ.
كان عقلُه في عالمٍ آخر، يعود بذهنه لما حدث، كأنّه يعيشه مرةً ثانية.
أغمضَ عينيه، وشعر بقطراتِ العرقِ تتجمع على وجنتَيْه.
كانت تلك الذكرى تسحقه ببطء، تتغذّى على ألمه.
منذ ذلك اليوم، لا ينام دون أن تُرافقه تلك الكوابيس.
تُلحقه سيِّئاته لتحرقه في نارِ الدنيا.
يبكي بصمتٍ موجِع، دون دموع.
هو الذي يهابه الجميع، حتّى نفسُه أصبحت تخافه.
قسماتُه الوسيمةُ يُغلفها الجمود، لكن داخله يصرخ.
سمع طرقاتٍ خفيفةً على بابِ غرفته.
لم ينتبهْ إليها في البداية، لأنّ صوتَ عقلِه كان أعلى.
لكنّه انتبه عندما زادت حدّتها. فتح عينيه، وأعاد ترتيبَ هيئتِه لتُناسب قناعَه الوهميّ الذي سيَسقُطُ حتمًا... يومًا ما!
سمح للطارق بالدخول، وكان صوتُه حادًّا، يُغلفه البرودُ المصطنَع.
دخلت ورد، مُترددةً قليلًا. خطواتُها بطيئة، تخشاه.
لو علمت حالته منذ دقائق، لكان تغيّر موقفُها.
تحدث آدم، وكانت حروفُه أقلّ حدّةً، حتى تَتكلّم: – عايزة إيه يا ورد؟
ورد فركت يديها بخوفٍ مما هي مقبلةٌ عليه.
في جوفِها خبرٌ لن يمرّ مرورَ الكرامِ لدى آدم.
هنا صرخ بها آدم: – ماتنجزي يا ورد!
تكلمت ورد سريعًا، وكانت كلماتُها أشبه بالخنجرِ الذي أصاب آدم في مقتل: – البنت... البنت فاقت.
ورد لم تكن بحاجةٍ للتوضيح أكثر.
لم تستطع النظرَ إلى وجهه وهي تتحدث، تعلم أنّها لا تقوى على ذلك.
كانت تنتظر أن يصرخ، لكنّها تفاجأت عندما قال بهدوءٍ لم تعهده عليه أبدًا:
– اطلعي برّه.
كانت تلك الكلماتُ بمثابةِ حبلِ النجاةِ لورد، حتى لا تنتظرَ أكثرَ في غرفتِه التي تخنقها، وكأنّ الهواء اعتاد على قسوةِ آدم.
أمّا في الداخل، ظلّ آدم واقفًا مكانه. لم يُحرّك ساكنًا.
أصابَه خنجرُ عباراتها، حتى تساقطت دماؤه أمام قلبٍ قاسٍ كان قد فقد الشعور.
Comments