أنستازيا وأرض الظلال
في إحدى الليالي المقمرة، حيث كانت الرياح تعزف لحنًا غامضًا بين أغصان الأشجار، جلست أنستازيا على شرفة قصرها تتأمل السماء. كانت فتاةً ذات شعر أسود طويل ينسدل كخيوط الليل على كتفيها، وعينين بلون الزمرد يشع منهما بريق الذكاء.
لم تكن أنستازيا فتاةً عادية، بل كانت سليلة عائلة عريقة اشتهرت بالحكمة والقدرة على كشف الأسرار. غير أن حياتها انقلبت رأسًا على عقب عندما وجدت كتابًا قديمًا في مكتبة القصر، مغلفًا بجلد غريب ومختومًا بختمٍ ذهبي يحمل رمز تنين ذي جناحين متشابكين.
فتحت الكتاب بحذر، وإذا بحروفه تتوهج بلون أزرق خافت، وكلمات لم تفهمها بدأت تتراقص أمام عينيها. فجأة، انبثق نور قوي من صفحاته، ليبتلعها تمامًا..
عندما استعادت وعيها، وجدت نفسها في غابة كثيفة، حيث الأشجار الشاهقة تحجب السماء، والضباب يلف المكان في غلالة من الغموض. وقفت تتلفت حولها، تحاول استيعاب ما حدث، وإذ بصوت أجش يناديها:
— "أخيرًا وصلتِ، الوريثة المختارة!"
التفتت أنستازيا بسرعة، لترى رجلاً مقنعًا يرتدي عباءة سوداء. بدا كأنه خرج من العدم، وكانت عيناه تشعان بلون أحمر مخيف.
— "من أنت؟ أين أنا؟"
ضحك الرجل ضحكة باردة وقال:
— "أنتِ في أرض الظلال... موطن السحر والخيانة والمصير المجهول."
شعرت أنستازيا بقلبها يخفق بسرعة. لم تكن تعلم إن كان هذا حلمًا أم واقعًا، لكنها أيقنت أنها ف
لم يكن الرجل المقنع وحده في الغابة، إذ سرعان ما ظهرت فتاة ذات شعر فضي وعينين بلون البحر تدعى "إيريس"، والتي همست لأنستازيا:
— "لا تثقي به، إنه لوسيان، خادم ملك الظلال، وهو يسعى لاستغلالك!"
أدركت أنستازيا أنها في وسط لعبة معقدة، حيث لا يمكنها تصديق أحد بسهولة. وبينما كانت تحاول استجماع أفكارها، سمعت ضجيجًا آتيًا من الأعماق، وإذا بجماعة من الفرسان السود يظهرون على خيول داكنة، يتقدمهم رجل ذو وجه مشوه يحمل سيفًا غريبًا يشع باللون القرمزي.
— "أعطونا الفتاة، إنها مفتاح البوابة!"
لم يكن أمام أنستازيا وإيريس سوى الفرار. جرتا عبر الأشجار، حتى وصلتا إلى كهف مخفي خلف شلال متلألئ. دخلتا بسرعة، لكن ما إن استراحتا حتى لمعت عينا إيريس بمكر.
— "أنا آسفة، يا أنستازيا، لكن لا خيار لديّ."
قبل أن تفهم أنستازيا ما يحدث، شعرت بسكين باردة تُضغط على رقبتها، وإيريس تبتسم بخبث.
— "لقد كنتِ طُعمًا منذ البداية!"
شعرت أنستازيا بقبضة قوية تسحبها للخلف، وأغمضت عينيها عندما سمعت ضحكة إيريس الساخرة. حاولت المقاومة، لكن فجأة شعرت بوخز إبرة في رقبتها، ثم حل الظلام تمامًا...
عندما فتحت عينيها، وجدت نفسها في غرفة فاخرة لكنها موحشة، جدرانها مزينة بنقوش غريبة، وسقفها مضاء بثريات من الكريستال الأحمر تنثر ضوءًا خافتًا مخيفًا. جلست ببطء، محاولة استيعاب مكانها، لكنها شعرت بثقل في معصميها، حيث كانت مقيدة بأصفاد ذهبية تلمع بنقوش سحرية.
— "استيقظتِ أخيرًا."
استدارت أنستازيا بسرعة لترى رجلاً يجلس على عرش أسود، عينيه بلون الدم، وشعره الأسود ينساب على كتفيه مثل الظلام الحي.
— "أنا الملك درافين، سيد هذه الأرض، وأنتِ... ستكونين مفتاح خلاصي."
شعرت أنستازيا بقشعريرة تسري في جسدها. هذا الرجل لم يكن مجرد ملك، بل كان شيئًا أكثر خطورة..
اقترب درافين ببطء، ورفع يدًا مغطاة بخواتم مرصعة بالأحجار السوداء، ثم لمس جبينها برفق. فجأة، تدفقت الصور في عقل أنستازيا كأنها شظايا ذكريات من حياة أخرى...
رأت امرأة تشبهها، تقف في قاعة عظيمة، وخلفها جيش من الفرسان ذوي العيون المتوهجة. كانت ترفع سيفًا يشع بضوء ذهبي، وتواجه الملك درافين نفسه، الذي بدا أكثر شبابًا، وأكثر غضبًا.
— "أنتِ وريثة الملكة إلينورا..." همس درافين، وعيناه تضيقان.
أنستازيا شهقت وهي تدرك الحقيقة: لم تكن مجرد فتاة ضائعة في عالم سحري، بل كانت سليلة سلالة ملكية قديمة، قدّر لها مواجهة هذا الملك قبل قرون... والآن عاد الصراع من جديد.
بينما كانت أنستازيا تحاول فهم مصيرها، سمعت صوتًا خافتًا في أذنيها:
— "ألا زلتِ تثقين بكل ما يُقال لكِ؟"
نظرت حولها، لكنها لم ترَ أحدًا. الصوت كان يأتي من الظلال نفسها، حيث تشكلت أمامها فجأة هيئة رجل طويل القامة، يرتدي رداءً داكنًا، بعينين لامعتين بلون الفضة.
— "أنا زين، وقد حان الوقت لنخرجكِ من هنا."
شعرت أنستازيا أن هذا الرجل مختلف عن البقية. لم تكن تعرف إن كان صديقًا أم عدوًا، لكن لم يكن لديها خيار سوى اتباعه...
بسرعة خاطفة، أخرج زين خنجرًا صغيرًا ولمس الأصفاد، فاختفت كأنها لم تكن. أمسك بيدها وقال:
— "اجري، ولا تنظري خلفكِ!"
ركضت أنستازيا خلفه عبر ممرات القصر الطويلة، حيث تراقصت الظلال وكأنها تراقبهما. فجأة، دوى صوت صرخة غاضبة:
— "امنعوهما من الهرب!"
كان الملك درافين قد اكتشف محاولتهما، وأطلق جنوده المسلحين لمطاردتهما. كان الظلام خلفهما يزأر كوحش غاضب، لكن زين كان سريعًا كأنه يعرف كل الطرق المخفية.
وصلوا إلى قاعة ضخمة تتوسطها مرآة عملاقة ذات إطار فضي مشع، ووقف زين أمامها قائلاً:
— "هذه بوابة، لكنها لا تُفتح إلا بدمكِ، يا أنستازيا."
ترددت، لكنها سمعت وقع خطوات الجنود يقترب. لم يكن لديها وقت!
بسرعة، جرحت كفها بسكين، ولمست المرآة، فبدأت تلمع بقوة، وسحبها الضوء إلى الداخل...
عندما استعادت وعيها، وجدت نفسها في مكان مختلف تمامًا. لم تكن بعد في أرض الظلال، بل في مدينة مهيبة تلمع شوارعها بالذهب، وأبراجها ترتفع حتى تعانق السحاب.
— "مرحبًا بكِ في مدينة النور، موطن الحقيقة... والخداع."
نظرت إلى زين، الذي ابتسم بخبث، وقال:
— "لكن لا تفرحي كثيرًا، فاللعبة لم تبدأ بعد."
Comments