ليلة أخرى تلف سانت بطرسبورغ، بأضوائها الخافتة التي تتراقص على الأرصفة الرطبة، وكأنها تحكي أسرارًا لم تُفصح عنها بعد. داخل غرفتها الصغيرة، جلست إيرينا على كرسي خشبي قرب النافذة، تحدق في الخارج، بينما يغمرها شعور لا تستطيع تحديده. مزيج من الفضول والخوف والرغبة.
أمامها على الطاولة، كوب من الشاي بالكاد شربت منه، وقلم مع دفتر صغير فتحت صفحاته دون أن تكتب فيه شيئًا. كانت تكتب عادةً عن يومها، تفرغ مشاعرها بالكلمات، ولكن الليلة كانت مختلفة. كلما حاولت الإمساك بالقلم، عادت صورة ديمتري إلى ذهنها—عيناه اللتان تحملان شيئًا لا يمكن فك شفرته، ونبرة صوته التي كانت أشبه بموسيقى تسرق أنفاسها.
تسارعت دقات قلبها. لم يكن هذا شعورًا معتادًا بالنسبة لها. إيرينا كانت دائمًا شخصًا منطقيًا، تزن الأمور بعقلانية قبل أن تُلقي بنفسها في أي شيء. لكنها الآن تشعر وكأن عقلها يحاول كبح جماح قلبها الذي يبدو وكأنه يركض نحو المجهول.
"ما الذي أفعله؟ لماذا أسمح له بالسيطرة على أفكاري؟"
تمتمت لنفسها بصوت خافت، وكأنها تحاول إقناع نفسها بأن كل هذا مجرد وهم.
ولكن، كان هناك شيء في ديمتري لا يمكنها تجاهله. كان يبدو وكأنه يعرف كل شيء عنها، كل نقاط ضعفها ومخاوفها. كأنه مرآة تعكس أعمق أسرارها، حتى تلك التي لم تكن تدركها بنفسها.
بينما كانت غارقة في أفكارها، سمعت طرقات خفيفة على بابها. شعرت بقلبها يقفز في صدرها. لم تكن تتوقع أحدًا. نهضت ببطء، وتقدمت نحو الباب بخطوات حذرة. عندما فتحته، كان ديمتري واقفًا هناك، بابتسامته الغامضة التي تحمل أكثر مما تبوح به الكلمات.
إيرينا (مندهشة): "كيف... كيف عرفت أين أسكن؟"
ديمتري (بهدوء): "قلت لكِ من قبل، لدي طريقتي."
كانت كلماته بسيطة، لكنها حملت ثقلًا لا يمكن تجاهله.
إيرينا (بقلق): "لماذا أنت هنا؟"
ديمتري: "لأنني لم أستطع البقاء بعيدًا. كنت بحاجة إلى رؤيتك."
نظراته كانت تخترقها، وكأنها تقرأ داخل أعماقها.
وقفت إيرينا أمامه، بين الرغبة في أن تطلب منه المغادرة، والخوف من أن يرحل فعلًا. كان وجوده طاغيًا، مثل عاصفة تقتحم هدوء حياتها الصغيرة. لكنها في نفس الوقت، شعرت بشيء آخر. وكأن وجوده يجلب نوعًا من الدفء الذي لم تختبره من قبل.
دعاها للخروج معه، قائلًا إن الليلة جميلة جدًا لتُقضى بين الجدران. وعلى الرغم من ترددها، وجدت نفسها تلتقط معطفها وتغلق الباب خلفها.
سارا معًا عبر الشوارع الهادئة، حيث كان الهواء باردًا لكنه منعش. كانا يسيران بصمت في البداية، لكن هذا الصمت لم يكن مزعجًا. كان أشبه بلغة غير منطوقة بينهما، تحمل أكثر مما تستطيع الكلمات قوله.
ديمتري (بصوت هادئ): "هل تعرفين، إيرينا؟ هذه المدينة تحمل أرواحًا كثيرة. كل زاوية وكل شارع لها قصة."
إيرينا (تحدق فيه): "وأي قصة تعتقد أننا نصنعها الآن؟"
ابتسم بخفة، وكأن سؤاله كان متوقعًا.
ديمتري: "قصة لا يستطيع الزمن محوها."
كان حديثهما أشبه برقصة، كل كلمة تُقال وكأنها خطوة تُقربهما أكثر من بعضهما البعض. لكن كان هناك دائمًا شعور بأن هذه العلاقة محفوفة بالمخاطر، وكأن هناك خيطًا رفيعًا يفصل بين الحميمية والخطر.
وصلا إلى جسر قديم يطل على نهر نيفا. وقف ديمتري بجانبها، ينظر إلى المياه التي تعكس أضواء المدينة. ثم التفت إليها، ومد يده ببطء، وكأنه يطلب منها شيئًا أكثر من مجرد الإمساك بها.
ديمتري: "إيرينا، هناك شيء يجب أن تعرفيه."
إيرينا (بحذر): "ما هو؟"
اقترب منها ببطء، حتى شعرت بحرارة أنفاسه على وجهها.
ديمتري (بنبرة جادة): "أنا لست كما أبدو. حياتي ليست كما تتصورين. إذا قررتِ البقاء قريبة مني، عليكِ أن تكوني مستعدة لما هو قادم."
تجمدت إيرينا في مكانها، غير قادرة على استيعاب كلماته بالكامل. لكنها أدركت شيئًا واحدًا—كانت قد وصلت إلى نقطة اللاعودة. ما كان يبدو كقصة حب غامضة بدأ يتكشف كشيء أكثر تعقيدًا، أكثر خطورة.
كانت الليلة تبتلعها، تمامًا كما كان ديمتري يفعل مع روحها.
19تم تحديث
Comments