كان وليام يسير في ممرات القصر بخطى غاضبة، حذاؤه يصدر صدى حادًا على أرضية الرخام الفاخر. ملامحه كانت متوترة، حاجباه معقودان، ونظراته الرمادية مشتعلة بغضب مكتوم.
فتح الباب الكبير المؤدي إلى غرفة جده الملك بعنف، ليدخل ويرى العجوز جالسًا على كرسيه المعتاد، ممسكًا بكوب من الشاي يتمتم بسعادة واضحة، وكأن كل شيء يسير كما خُطط تمامًا.
“جدي!” قالها وليام بصوت غاضب، ليقف أمامه بحدة.
رفع الملك رأسه ببطء، وعلى شفتيه ابتسامة خفيفة توحي بالانتصار، ثم قال بهدوء:
“أوه، وليام… أتيت بسرعة، هذا جيد.”
ضرب وليام بيده على الطاولة القريبة منه، وصرخ:
“أنا أرفض!”
ضحك الملك ضحكة قصيرة وهو يضع كوب الشاي جانبًا، ثم شبك أصابعه أمامه وقال بنبرة هادئة:
“رفضك لا يغيّر شيئًا، يا حفيدي العزيز. القرار قد تم.”
تراجع وليام خطوة للخلف وهو يتمالك نفسه، ثم قال من بين أسنانه:
“أتريد تزويجي بتلك الفتاة فقط لتجبرني على البقاء في هذا القصر؟”
أجابه الملك:
“بل لأجبرك على أن ترى العالم بشكل مختلف. تلك الفتاة قد تكون مفتاح نجاتك، سواء أعجبتك أم لا.”
ابتسم ابتسامة خبيثة، ثم أردف:
“كما أنكما تتناسبان بشكل جميل… أنتما متشابهان أكثر مما تعتقد.”
ولم يستطع وليام الرد، كان داخله يموج بغضب شديد، لكنه لم يجد الكلمات. الصورة الأخيرة التي رآها لروز وهي تصرخ بوجهه في الحديقة لم تفارقه… كيف يمكن أن تكون هذه الفتاة قدره؟
وبينما يهم بالخروج من الغرفة، سمع صوت جده يقول:
“إن لم تتقبل هذا… فقد لا تحصل على الترياق، ولن تنجو من لعنتك.”
توقف وليام للحظة… ثم غادر دون أن ينطق بكلمة، لكن قلبه كان يغلي.
⸻
في صباح اليوم التالي، تسللت أشعة الشمس الذهبية إلى غرفة روز، لتوقظها على مهل. فتحت عينيها بتكاسل، لكنها ما لبثت أن تذكرت ما حدث بالأمس، فجلست بسرعة على سريرها وعيناها تلمعان بخبث غريب.
ابتسمت وهي تتمتم:
“أوه، وليام… خطيب، هاه؟ يالها من مصادفة ممتعة.”
ثم نادت بصوت ناعم يحمل بعض التسلية:
“آيريس! آيريس، أين أنتي؟ أسرعي!”
دخلت الخادمة الصغيرة مهرولة:
“نعم آنستي؟”
روز وهي تقف وتتجه نحو مرآتها:
“أريدك أن تجهزي لي فستاني الأبيض ذو الشريط الأزرق، وصففي شعري كما في أول يوم دخلت فيه الأكاديمية. سأخرج اليوم.”
آيريس باستغراب:
“إلى أين، آنستي؟”
ابتسمت روز وهي تتأمل انعكاس وجهها في المرآة، ثم همست بخفة:
“لا أدري… ربما إلى الحديقة الملكية مجددًا، أو… فقط لتذكير شخصٍ ما أني لا أُجبر بسهولة.”
وبينما كانت آيريس تسرّح خصلات شعرها الأشقر، تذكّرت روز كلمات فيلكس في الحديقة مساء أمس، حين اقترب منها وقال بصوته المائل للسخرية:
“أتعلمين؟ أعتقد أن وليام يحتاج لكِ… أو على الأقل، يحتاج من يعيد له صوابه، وأنتِ بارعة في ذلك.”
ضحكت في سرّها وهي تفكر:
“فيلكس… ذلك الوقح، لكنه محق. وليام بحاجة لمن يزعزع عالمه.”
انتهت من التجهز، وقبل أن تخرج من غرفتها، حدقت في المرآة للمرة الأخيرة، وقالت بابتسامة خفيفة:
“إن كان هذا قدري… سأجعله ممتعاً.”
⸻
غادرت روز القصر بخطى واثقة، فستانها الأبيض يتمايل مع نسمات الصباح الناعمة، وخصلات شعرها الأشقر تلمع تحت ضوء الشمس. كانت تمشي في الممرات الملكية المزينة بالأزهار، متجهة نحو الحديقة الهادئة التي بدأت تألفها أكثر مما توقعت.
ما إن وصلت حتى لمحت فيلكس واقفًا عند إحدى النوافير، يداعب المياه بأطراف أصابعه، وكأن لا شيء يشغله في هذا العالم. رفع رأسه فور رؤيتها، وابتسم ابتسامته المستفزة المعتادة.
فيلكس: “أوه، روز… تأخرتِ. كنت سأظن أنك خائفة من مواجهته.”
روز (وهي ترفع حاجبًا بابتسامة ماكرة): “أنا؟ خائفة؟ بل متحمسة لرؤية وجهه عندما يرانا سويًا.”
ضحك فيلكس، ثم مدّ يده لها لتجلس بجانبه على المقعد الرخامي المحاط بالورود، وتبادلا نظرات لا تخلو من المرح.
⸻
في تلك اللحظة، عند أحد ساحات التدريب الخلفية داخل القصر، كان وليام يتدرب على السيف، ضرباته قوية ودقيقة، لكن التعب بدا واضحًا على وجهه وقطرات العرق تنساب على جبينه.
وقف الخادم كيرل خلفه بهدوء، مترددًا للحظة قبل أن يقول بصوت خافت:
“سيدي وليام…”
توقف وليام عن الحركة فجأة، قابضًا على مقبض سيفه، وقال دون أن يلتفت:
“ماذا الآن؟”
اقترب كيرل قليلاً، ثم قال باحترام:
“آنسة روز… والسيد فيلكس، يطلبان لقاءك في الحديقة الملكية.”
سكن وليام للحظة، ثم استدار ببطء، وعلى وجهه نظرة جمّدها الغضب والدهشة معًا.
“روز… وفيلكس؟” همسها كأنها جملة غير منطقية، ثم رفع حاجبه وقال بتهكم وهو يدفع شعره المتعرق للخلف:
“منذ متى أصبحا أصدقاء؟”
لم يُجب كيرل، لكنه رأى في عيني وليام بريقًا غير مألوف… مزيج من الغيرة والقلق، وهو ما لم يكن وليام مستعدًا للاعتراف به بعد.
⸻
وصل وليام إلى الحديقة بخطوات ثقيلة، وقد بدا التوتر متجسدًا في كل حركة من حركاته. عيناه الرماديتان الثاقبتان ثبتتا مباشرة على روز، التي كانت تضحك بخفة بجانب فيليكس.
دون أن يقول كلمة، جلس أمامهما على الكرسي المقابل، مسندًا مرفقه إلى ذراع المقعد وناظراً إلى روز، ثم حوّل نظره إلى فيليكس بنظرة تحمل مزيجًا من الغضب والتحدي.
ساد الصمت للحظة، حتى شعرت روز بثقل الأجواء، فحاولت كسره بابتسامة مصطنعة وهي تلتقط قطعة من الحلوى.
روز (بمرح مفتعل): “يا لها من حلوى لذيذة! عليك تجربتها!”
نظرت إلى فيليكس بابتسامة صغيرة.
فيليكس (بلهجة مرحة): “لكن الحلوى التي في طبقك تبدو أشهى بكثير.”
ضحكت روز بخفة ومدّت يدها لتقرب طبقها من طبقه حتى يقارنهما. ولكن، في لحظة غير محسوبة، ارتطمت يدها بفنجان الشاي الموضوع بجانب الطبق، ليسكب محتواه الدافئ مباشرة على يد فيليكس.
فيلكس (متفاجئًا): “آه!”
تراجع قليلًا وهو ينظر إلى يده التي انسكب عليها الشاي، بينما أسرعت روز تضع المنديل على يده بارتباك.
روز (مذعورة): “أوه لا! أنا آسفة! لم أقصد أبدًا!”
بينما كانت روز منشغلة في محاولة إصلاح الموقف، لم يكن وليام ينظر سوى لشيء واحد… طريقة نظرها القلقة لفيلكس، وقربهما الذي لم يرق له أبدًا.
وليام (ببرود لاذع): “ربما كان يجدر بكما تناول الحلوى بعيدًا عن الحديقة… حرارتها قد تفسد الجو.”
رفعت روز نظرها نحوه بحدّة، لكن لم تقل شيئًا، بينما فيلكس ضحك بخفة وقال وهو يلوّح بيده:
“لا بأس… لا شيء خطير. لقد جعلتِ هذا اللقاء أكثر سخونة، روز.”
ازدادت نظرة وليام قسوة، وكأن شرارة خفية اندلعت في عينيه.
Comments