الفصل الخامس:
كان الصباح قد أشرقت شمسه بلونٍ ذهبي باهت، والنسيم يمر بين جدران المقرّ كأنّه يهمس بأخبارٍ لا يفهمها أحد.
فتح باتلر عينيه، وبقي للحظات يُحدّق في السقف الحجري دون أن يتحرّك.
لقد انتهى اليوم الأول… لكنه يشعر أن شيئًا ما بدأ للتو.
خرج من حجرته، وتناول فطوره بصمتٍ مع البقية.
كل النظرات كانت موجّهة نحوه. ليست نظرات احتقار، ولا تعاطف… بل شيء مختلف. شيء يشبه الاعتراف.
لكن ذلك الصمت تحطّم عندما دخل أحد الحراس، يحمل رسالة مختومة بالختم الملكي.
اقترب من القائدة إليورا، وانحنى قائلاً: "رسالة عاجلة من القصر."
فتحتها إليورا أمام الجميع. قرأت بصوت منخفض، ثم رفعت بصرها نحو باتلر: "لقد تم استدعاؤنا."
سأل دايرن بتعجب:
"نحن؟ جميعًا؟"
هزّت رأسها: "فقط أنا… وباتلر. باعتباري قائدة الفرقة… وباعتباره النائب المؤقت."
ابتسم راي بخفّة: "يبدو أن الملك بدأ ينتبه للهدوء المخيف في هذا الفتى."
داخل أسوار القصر الملكي
بعد ساعات قليلة، وقف باتلر وإليورا أمام البوابة الجنوبية للقصر.
كان القصر هائلًا، جدرانه من الرخام الأبيض المنحوت، تعلوها أبراجٌ مزخرفة بأعلام المملكة.
الجنود اصطفوا عند الجانبين، حاملين رماحًا طويلة بقبضات مطلية بالذهب، ودرع كل منهم يعكس ضوء الشمس.
قالت إليورا وهي تتقدمه بثبات: "كن هادئًا. داخل هذه الجدران… الكلمات تقتل أكثر من السيوف."
دخل الاثنان معًا، مرّوا عبر ردهات فخمة تفيض بالبذخ، إلى أن وصلوا قاعة طويلة، فيها عشرات من النبلاء والفرسان الكبار.
وقف بعض النبلاء حالما رأوا إليورا، وانحنى آخرون بخفة احترامًا لها… لكنها لم ترد التحية. فقط تابعت المشي بثقة.
أما باتلر، فقد كان يمشي خلفها بخطوات موزونة، عينيه تمسح المكان بصمت.
ضحكات، تفاخر، رائحة العطور الثقيلة… وأصوات تتحدث عن "القوى" و"المستويات".
أحدهم، شاب أشقر الشعر، يرتدي رداءً أبيض مزخرفًا بالذهب، قال بصوتٍ مرتفع: "من هذا؟ يبدو كخادم ضائع في طريقه إلى الإسطبل."
ضحك البعض بخبث، لكن إليورا لم تلتفت.
اقترب الشاب، وتوقّف أمام باتلر.
قال بابتسامة واسعة، لكن عينيه تشعّران بالسّم: "أنا رلاي، وريث عائلة الشمس البيضاء… سمعت أنك فتى الفرقة الجديد. لدي فضول لرؤية ما يجعلك بهذه الأهمية."
لم يجب باتلر، فقط نظر إليه نظرة عابرة.
تابع رلاي، وقد ازدادت ابتسامته اتساعًا: "ما رأيك بمبارزة بسيطة؟ عرضٍ صغير أمام الملك… نُسلّي به الجميع."
أجاب باتلر بهدوء: "لست مهتمًا بقتال من هو أضعف مني. وليس لدي سبب لأقاتلك."
لحظة صمت. ثم صوت رلاي يتغير، حادًا، ساخرًا:
"إذا كنت رجلًا حقًا… قاتلني يا ابن العاهرة."
تجمّد الجو.
حتى بعض النبلاء صمتوا بدهشة، فيما توتر الحراس حول القاعة.
تغيّرت نظرات باتلر. بقي ثابتًا، لكن عينيه اشتعلتا بوميض قاتل.
اقترب خطوة واحدة، وقال بصوت منخفض، فيه جليد ونار:
"إذا كنتَ قادرًا على التنفس أمامي… سأوافق."
إلى حلبة القتال
قادهم أحد الفرسان إلى ساحة حجرية ضخمة خلف القصر، محاطة بجدران عالية، مخصصة للمبارزات الملكية.
جلس الملك في مقعدٍ مرتفع يتوسط المدرج، يحيط به القادة وأعضاء المجلس الملكي، ينظرون باهتمام غير مسبوق.
قال أحدهم: "دعونا نرى هذا الفتى… الذي يقال إنه فجّر دمى التدريب دون أن يرفع إصبعًا."
وقف باتلر في الجهة اليمنى من الساحة، بينما وقف رلاي على الطرف الآخر، محاطًا بهالة من الضوء.
رفع الحكم صوته: "المبارزة تبدأ… الآن!"
القتال: وهج الكلمات وظلال الجاذبية
لم ينتظر رلاي. رفع يده فورًا، وانطلق منه شعاع ضوء حارق بسرعة مذهلة.
لكن باتلر تحرّك بجزء من الثانية، ومال بجسده، فتفادى الشعاع.
همس: "ضغط الجاذبية ×100."
فجأة، ارتجّت الأرض تحت أقدام رلاي.
هواء كثيف سحقه للأسفل. العشب تحوّل إلى تراب مسطّح.
رلاي انحنى على ركبتيه، يلهث، ويداه ترتجفان.
قال باتلر، وهو يخطو نحوه ببطء: "هذه مجرد البداية."
لكن رلاي ابتسم، وغمغم بصوتٍ غريب:
"أنت لا تفهم شيئًا عن السحر الحقيقي…"
رفع يده، وصرخ:
"إطـــلاق العــنـــان!!!"
اهتزّ الهواء. تشقّقت السماء.
وفجأة… بدأ مطرٌ من الضوء يسقط من السماء، ليس كأشعة، بل كسكاكين سحرية تنغرس في الأرض كأنها تبحث عن هدفها.
ركض باتلر… لكن إحدى الشُهب ضربت كتفه، ودمه سال على الرداء القرمزي.
تراجع خطوتين. ثم ابتسم.
رفع يده، وقال بهدوء:
"كرة البرق… كرة النار… ودرع الجليد."
تشكل درعٌ جليدي حول جسده، تصدّى للأمطار المضيئة، بينما كوّنت يداه كرتين ناريتين، واحدة زرقاء والأخرى سوداء، ثم صهرهما بوميض كهربائي وصرخ:
"النـــار الصــاعــقــة!!"
انطلقت طاقة لولبية، مزيج من النيران والبرق والجليد، تدور كالدوامة، ثم تطلّقت كقذيفة ضخمة نحو رلاي، الذي حاول الطيران بعيدًا.
لكن الطاقة… لاحقته.
قفز، اختفى، ظهر في الهواء… لكنها ما تزال خلفه، كأنها تشتم رائحته.
صرخ: "مستحيل!! هذا سحر مُطارد!"
لم يُجِب باتلر.
اصطدمت التقنية برلاي أخيرًا.
انفجارٌ ضخم دوّى في الساحة، غطّى نصف الميدان بالغبار، وبينما تلاشت الرؤية، ظهر جسد رلاي مرميًا وسط الحطام، محترقًا وثوبه ممزق.
سقط على ركبتيه، ثم على وجهه… فاقدًا الوعي.
صمت. ثم تصفيق.
بطيء… ثم أسرع… ثم تحوّل إلى تصفيق جماعي يهزّ المدرجات.
قال الملك بصوت عالٍ: "قوةٌ خطرة… لكنها متزنة. هذا الفتى… ليس عاديًا."
اجتماع القادة
بعد القتال، اجتمع القادة الكبار في قاعة العرش.
قال الملك وهو ينهض من مقعده: "ما رأيكم؟"
قال أحد القادة:
"إنه سلاح… يحتاج فقط إلى نصلٍ موجه."
قالت إليورا: "أفضّل تسميته فارسًا… لا سلاحًا."
ابتسم الملك، ثم أخرج لفافة قديمة ووضعها على الطاولة.
"جاءتني شكاوى متكررة من مدينة ريفية في الجنوب… مخلوق غريب ظهر فيها، ابتلع الظلال، واختفى كل من أرسلناهم."
ساد الصمت.
ثم أكمل: "أريد من فرقة العاصفة القرمزية التوجّه فورًا… والتحقق. هذا… اختبار."
نظر مباشرة نحو باتلر: "اختبار لك."
نهاية الفصل
في طريق العودة إلى المقر، كان باتلر صامتًا.
عينيه تتأمل الطريق، لكن عقله في مكان آخر.
قالت إليورا فجأة، وهي تنظر إليه من طرف عينها:
"ما توقعتك تنفعل بهاي السرعة… غريب."
أجاب باتلر بصوت خافت، فيه جمرة مكتومة:
"أنا لا أغضب بسهولة… بس في ناس لما يذكروا اسم أمي… بيحفروا قبورهم بألسنتهم."
نظرت إليه طويلًا… لكنها لم تقل شيئًا.
وصلوا إلى المقر مع مغيب الشمس، والسماء تكتسي بلون الدم والذهب.
باتلر… كان يعلم أن المعركة القادمة
لن تكون مبارزة استعراض. بل بداية لشيء أعظم.
في مقر فرقة العاصفة القرمزية، وقفت القائدة "إليورا" أمام أعضاء فرقتها، وقالت بصوت هادئ وحاسم:
"تجهزوا، غدًا لدينا مهمة صعبة نوعًا ما."
ساد الصمت للحظة، ثم بدأ الحماس يظهر على وجوه الأعضاء، وقال أحدهم:
"أخيرًا... مهمة لنا."
في صباح اليوم التالي، استيقظ الجميع، وتجهزوا بسرعة. انطلقوا طيرانًا عبر الغيوم نحو المدينة الريفية.
المنطقة كانت جبلية، كثيفة بالغابات، الأمطار تهطل بشكل مستمر، والبرق يضرب بين حينٍ وآخر، والرياح كانت قوية.
رغم أن الوقت كان صباحًا، إلا أن السماء كانت مظلمة تمامًا، والجو يبعث على القلق.
هبطت القائدة قرب أحد الكهوف، وتقدمت وحدها نحوه. دخلت بهدوء، وتفحّصت المكان، حتى وقعت عيناها على جمجمة سوداء، ضخمة، لها قرنان ملتويان.
تقدّمت ببطء، وتأملت الجمجمة، ثم قالت في عقلها:
(مستحيل... هل يعقل أنها من تلك المخلوقات؟)
خَبّأت الجمجمة باستخدام سحر خاص، ثم نادت باقي أعضاء الفرقة.
دخلوا الكهف، وبدأ الاستكشاف.
باتلر كان يسير إلى جانب الفتاة ذات الكتاب، التي بدت متوترة.
كلما تعمّقوا في الكهف، زاد خوفها، حتى قفزت على ظهر باتلر وتمسّكت به.
باتلر لم يُظهر أي ردة فعل، ولم يتكلم.
واصلوا التقدم، حتى لاحظ باتلر جناحًا أسود قديمًا على الأرض، لم يتبقَ منه إلا العظم.
اقترب منه وقال بهدوء:
"ما هذا الشيء..."
تابع باتلر سيره وحده إلى الداخل، حتى أصبح الجو أكثر ظلمة وسكون.
ثم، وسط العتمة، ظهر مخلوق من الظلام، دون ملامح واضحة، وله قرنان أسودان.
توقف باتلر، وعيناه على المخلوق.
ثم، فجأة، ظهر المخلوق خلفه، وهمس بصوت منخفض:
"لا تزعجني."
تراجع باتلر بسرعة، وشعر بتوتر واضح.
رفع يده، وأطلق سحر البرق لإضاءة المكان.
مع الضوء، ظهرت ملامح المخلوق بوضوح:
جناحٌ واحد، وجسد أسود، ورأسٌ مقطوع من جهة، بينما رأسه الآخر لا يزال في مكانه.
قال باتلر بخوف:
"من أنت؟ من أين أتيت؟"
أجابه المخلوق:
"أتيت من عالمٍ آخر... وأنا هو أنا."
باتلر لم يرد. رفع يده، وجمّد الكهف بالكامل، ليس فقط الجو بل كل الجدران والتفاصيل الداخلية.
شعرت الفرقة بتجمّد المكان فجأة، فأسرعوا إليه.
عندما وصلوا، انصدموا من منظر المخلوق.
قالت إليورا بصوت حازم وهي تنظر نحوه:
"كيف أتيت إلى هنا؟ وكيف لا تزال على قيد الحياة؟ من المفترض أنكم انقرضتم."
ردّ المخلوق:
"لقد أعادنا ملكنا من جديد."
ثم رفع يده، وبدأ يشكّل كرة طاقة بنفسجية، ثم رماها باتجاه إليورا.
جمدت إليورا ذراعيها بسرعة، وأمسكت الكرة، ثم جمّدتها بالكامل.
تقدّمت بعدها نحوه، وهجمت باستخدام قبضتها.
حرّك المخلوق جناحه الوحيد، فتكوّنت عاصفة هواء قوية، صدّت الهجوم.
تراجع الجميع خطوة إلى الخلف.
قال المخلوق:
"لقد أزعجتموني..."
ثم أطلق صرخة قوية، اهتزّ لها المكان بالكامل.
اقتربت الفتاة ذات الكتاب، وفتحت كتابها، فخرج منه سيف من الضوء.
هاجمته مباشرة، لكنه صدّ الهجوم باستخدام قبضته،
وضربها بقوة، فسقطت على الأرض، وكادت أن تُغمى من شدة الضربة.
نظر إليهم المخلوق وقال:
"هلمّوا إليّ... سأريكم القوة الحقيقية."
نهاية الفصل
Comments