بدأت العمل على حمل المعدات والصناديق الثقيلة ، ولكن مع أنني متفائل ، لم أكن قوي البنية كما يتطلب هذا العمل . كانت كل حركة تعباً كبيراً ، والوزن يقاومني في كل خطوة .
حملت صندوقاً كبيراً ، وشعرت بثقل لا يُحتَمل يضغط على ظهري وذراعي . كان التنفس يزداد صعوبة مع كل خطوة ، وعضلاتي تصرخ من الجهد . حاولت أن أتجنب السقوط أو الإسراع ، لكن الوقت يداهمني ، وصاحب العمل ينتظرني لأكمل المهمة بسرعة .
بينما كنت أتحرك بين الناس ، ذهبت أفكاري بعيداً إلى عائلتي في عالمي السابق . شعرت بحزن عميق وقلق لا ينقطع . هل هم أيضاً نُقِلوا إلى هذا العالم الجديد فجأة كما حدث لي ؟ أم أنهم مازالوا هناك ، في ذلك العالم الذي اعتدت عليه ؟
كيف حالهم الآن ؟ هل هم بخير ؟ هل يشعرون بالضياع كما أشعر الآن ؟ كل هذه الأسئلة كانت تقضم قلبي ، لكنني حاولت أن أُشَجِعَ نفسي ، متذكراً أن الأمل هو ما يبقيني واقفاً .
قلت في نفسي : " سوف يكونون بخير . سأجدهم في يومٍ من الأيام . مهما كانت الصعوبات ، لن أستسلم . "
حين اقتربت الشمس من الغروب ، عدت إلى مكان العمل حيث كان الرجل ينتظرني .
نظر إلي بنظرة نقد وقال : " لم تكن سريعاً كما توقعت ، وحملك للأمتعة لم يكن مُتقَناً كما ينبغي . "
تنهدت وأجبت : " أنا أعلم ، لم أكن قوياً بما فيه الكفاية . لكنني سأتحسن مع الوقت . "
ابتسم الرجل قليلاً وقال : " هذا ما أريد سماعه . الاستمرارية هي مفتاح النجاح . عملك اليوم لم يكن سيئاً ، ولكنك بحاجة للعمل على قوتك وسرعتك . "
أخرج من جيبه مبلغاً من المال ووضعه في يدي ، " هذا راتبك عن اليوم . استرح الليلة ، واستعد للغد . "
وقفت للحظة ، وأنا أتأمل الأموال في يدي . كان ذلك المبلغ الصغير يمثل أكثر من مجرد راتب _ كان نقطة انطلاقي نحو حياة جديدة ، دليلاً على أنني قادر على مواجهة الصعاب وتحقيق النجاح .
شعرت بفخرٍ لا يوصف يملأ صدري ، وكأن كل تعب اليوم تحول إلى أمل وإصرار . هذه الخطوة الأولى كانت بداية رحلة طويلة ، لكنني كنت مستعداً لأخطوها .
بعد أن حصلت على راتبي ، نظرت إلى النقود في يدي . أصبحت أملك خمسة عشرة دولاراً الآن . مبلغ صغيرٌ في نظر الكثيرين ، لكنه بالنسبة لي كان يمثل خطوة جديدة ، بداية حياة في هذا العالم الغريب .
قطع تفكيري صوت معدتي التي بدأت تئن ، تُذَكِرُني بأنني لم آكل شيئاً منذ الوجبة الأولى في هذا العالم . شعرت بالإرهاق والتعب يتسللان من قدمي إلى رأسي ، ولم أعد أفكر إلا بشيء واحد ... الطعام .
ذهبت إلى نفس المكان الذي تناولت فيه وجبتي الأولى . كان مطعماً بسيطاً من الخشب ، تقليدي الطابع ، له رائحة مميزة تملأ الهواء من مزيج التوابل والدخان الصاعد من المطبخ المفتوح .
الطاولات كانت صغيرة ومنتشرة بعشوائية ، وأصوات الزبائن تملأ المكان ، لكن الجو كان دافئاً على نحو غريب ، كأنك وسط عائلة لا تعرفها ، لكنها ترحب بك .
جلست على نفس الطاولة التي جلست عليها من قبل ، وجاء النادل ذاته ، كأن الوقت لم يتحرك .
سألني بابتسامة خفيفة :
" وجبة عادية ؟ "
أومأت برأسي ، وكنت بالكاد أستطيع الكلام من شدة الجوع .
بعد دقائق ، وُضِعَ أمامي صحن دافئ من الأرز المطهو على البخار ، تعلوه شرائحٌ من اللحم المتبل ، وَرَشَّةٌ من الأعشاب المجهولة التي لا أستطيع تحديدها ، لكنها كانت شهية المنظر . بجانبه وعاء صغير يحتوي على شوربة خفيفة ، تنبعث منها رائحة غريبة لكنها لذيذة . وعلى الطرف ، قطعة خبز محمص مغطاة بطبقة من الزبدة الذائبة .
لم أضيع وقتاً . بدأت أتناول الطعام بنهم ، وكل لقمة كانت كأنها تعيد لي طاقتي المفقودة .
لكن وسط الزحام والدفء ، شعرت أنني وحدي .
كل من في المطعم كان يتحدث مع أحد ، يضحكون ، يتبادلون القصص ...
أما أنا ، فكنت مجرد غريب بين الغرباء .
في مكان آخر ، ربما كنت الآن أتناول العشاء مع أمي ، أضحك مع أخي ، أو أتشاجر مع والدي حول شيء سخيف .
لكن هنا ... لا أحد يعرف اسمي .
عندما انتهيت ، دفعت خمسة دولارات ثم خرجت من المطعم . نظرت إلى ما تبقى في يدي ... عشرة دولارات فقط .
لم يكن المبلغ كبيراً ، لكنه كان كافياً ليومٍ آخر . ومازلت في بداية الطريق . خرجت من الشارع المزدحم ، متجهاً نحو أطراف المدينة حيث تنتظرني الغابة ، ملجئي الوحيد في هذا العالم الجديد .
كانت خطواتي بطيئة من التعب ، لكن قلبي كان أخف من أي وقتٍ مضى .
حين وصلت إلى المكان الذي نمت فيه سابقاً ، وجدت رقعة الأرض نفسها بين الأشجار ، لا تزال هادئة وباردة ، كأنها تنتظرني . جلست على الأرض ، وأسندت ظهري إلى جذع شجرة عتيقة .
أغمضت عيني ، وأخذت نفساً عميقاً . رائحة التراب ، وأصوات الحشرات ، وضوء القمر المتسلل من بين الأغصان ... كل شيء كان غريباً ومألوفاً في نفس الوقت .
رغم التعب والألم والجوع السابق ، شعرت بشيء مختلف هذه الليلة . كنت مازلت وحدي ، مازلت بعيداً عن عائلتي ، مازلت لا أفهم هذا العالم بالكامل ، لكنني ... تقدمت بخطوة .
خطوة واحدة ، لكنها كانت كبيرة .
ابتسمت بهدوء ، وهمست لنفسي :
" سأنجح ... يوماً ما "
ثم غفوت ، بينما كانت ليلة جديدة تغطي هذا العالم الجديد .
19تم تحديث
Comments