الفصل الأول: البدايات المربكة
كانت المدينة في ذلك المساء تغتسل بأضواء البرق، والسماء تمطر بشراسة وكأنها تُنذر بقدوم شيء غير عادي. بين الأزقة المبللة، كان شجاع يسير بخطوات سريعة، معطفه الأسود يلتصق بجسده بفعل المطر، وعيناه تبحثان في الظلام عن شيء لا يعرفه. كان في داخله شعور غامض بأن هذا الليل لن يكون عاديًا، وأن القدر يخطط له مفاجأة أكبر من أن يتجاهلها.
لم يكن شجاع مثل باقي الشباب. صحيح أنه يحمل اسمًا ثقيلًا، لكنه لم يكن يتفاخر به. بل كان يعتبره عبئًا، فكيف لرجل أن يكون جديرًا باسم "شجاع" بينما هو نفسه يخشى خسارة من يحب أو الوقوع في الضعف أمام قلب امرأة؟ ومع ذلك، كان هناك دائمًا في داخله ذلك الصراع: بين شابٍ يحلم بالحب والسكينة، ورجلٍ يجد نفسه مجبرًا على مواجهة الأخطار التي تلاحقه بلا رحمة.
عندما وصل إلى المقهى الصغير عند زاوية الشارع، دفع الباب الخشبي فصدر صوت طقطقة مألوف. المكان كان شبه فارغ، إلا من فتاة تجلس قرب النافذة، ينساب الضوء على شعرها البني الطويل، ويديها تحتضنان كتابًا بدا وكأنه سرٌ كبير. رفع شجاع عينيه نحوها، ولم يعرف لماذا شعر أن كل شيء توقف فجأة.
لم تكن هذه أول مرة يراها. كان قد لمحها قبل أيام عند المكتبة، نفس النظرات الحالمة، نفس الابتسامة التي تخفي وجعًا ما. لكن اليوم… كان الأمر مختلفًا. هناك هالة من الغموض أحاطت بها، كأنها لم تجلس هنا صدفة.
جلس بعيدًا أول الأمر، لكنه ظل يراقبها من طرف عينيه. كان المطر يتساقط بقوة خلف الزجاج، وهي تقلب صفحات الكتاب بعفوية، ثم ترفع نظرها أحيانًا وكأنها تنتظره. وفي لحظة غير متوقعة، التقت عيناها بعينيه. شعر بشيء يشبه الصاعقة يخترق قلبه.
اقترب منها بتردد، ثم وقف أمام طاولتها:
– ممكن أقعد هون؟
رفعت رأسها بابتسامة صغيرة وقالت:
– إذا كنت شجاع كفاية.
تفاجأ من ردها، وكأنه اختبار مبطن. جلس بصمت، ثم قال:
– كيف عرفتي اسمي؟
ضحكت بهدوء، ضحكة لم تخلُ من الغموض:
– أحيانًا الأسماء بتفضح أصحابها.
لم يفهم قصدها، لكن شيئًا ما في صوتها دفعه لأن يصدقها. شعر أن هذه اللحظة ليست عابرة. كانت عينها تحملان سرًا أكبر من مجرد صدفة رومانسية في ليلة ممطرة.
مرت الدقائق ببطء، والحديث بينهما بدأ يأخذ منحى شخصيًّا. اكتشف أن اسمها ليان، وأنها جاءت إلى المقهى تنتظر شخصًا لم يأتِ. لكنه شعر أنها لم تكن تنتظر أي أحد، بل كانت تنتظره هو. وكلما تحدث معها أكثر، ازداد شعوره بأن القدر يكتب لهما قصة لم يكن هو نفسه مستعدًا لها.
لكن الإثارة لم تتأخر في الحضور. فجأة، انفتح باب المقهى بقوة، ودخل رجل ضخم يرتدي معطفًا داكنًا، عيناه تمسحان المكان بعصبية. ما إن وقع نظره على ليان حتى شد قبضته وكأن النار اشتعلت في عينيه. أحست هي بالخطر، وخفضت رأسها بسرعة.
شجاع، رغم ارتباكه، وضع يده على الطاولة واقترب منها أكثر:
– مين هاد؟
همست بصوت مرتجف:
– ما تسأل… بس لا تخليني لحالي.
في تلك اللحظة، أدرك شجاع أن حياته على وشك أن تنقلب. لم يعد الموضوع مجرد لقاء عابر مع فتاة غامضة، بل مواجهة حقيقية مع قدرٍ لا يعرفه. قلبه خفق بقوة، بين رغبة في حمايتها ورغبة في الهرب من شيء أكبر منه.
وقف الرجل الضخم عند الباب، نظر مباشرة إلى الطاولة التي يجلسان عندها، ثم خطا خطوة للأمام. المطر في الخارج كان يزداد، والرعد يهدر، وكأن الطبيعة نفسها تواطأت مع هذا المشهد. شجاع أمسك بكف ليان تحت الطاولة دون أن يشعر، والدفء الذي شعر به من يدها منحه قوة لم يتوقعها.
قالت له بصوت خافت يكاد يختفي وسط ضجيج المطر:
– إذا بدك تروح، روح هلأ… بس إذا بقيت، حياتك رح تتغير للأبد.
ابتسم رغم توتره، وقال:
– يمكن هذا اللي كنت أستناه طول عمري.
وبينما اقترب الرجل أكثر، وقف شجاع ببطء، مستعدًا لمواجهة المجهول. كان يعلم أن قلبه عالق بين حب بدأ للتو، وخطر يتربص بهما من الظلال.
في تلك اللحظة، ولدت القصة حقًا… قصة "شجاع".
---
كانت شمس الصباح تشرق على القرية بخجل، والضباب يلف الحقول كأن الأرض تتنفس ببطء بعد ليلة ثقيلة. وقف سعيد أمام بيتهم الطيني يتأمل السماء، يحاول أن يطرد عن ذهنه الكوابيس التي أرّقته. رأى في منامه ألسنة نار تبتلع القرية، وصيحات أطفال يركضون، ووجهه يختفي وسط الدخان. استيقظ مذعورًا وهو يتصبب عرقًا، وكأن الحلم لم يكن مجرد خيال بل نذيرًا لما هو آتٍ.
بينما كان يغسل وجهه عند البئر، لمح جموعًا من أهل القرية يتجمعون عند أطراف الحقول. فضوله دفعه إلى الانضمام إليهم، وهناك كانت الأخبار تنتشر كالنار في الهشيم: النهر الذي يمد القرية بالماء انحسر فجأة، وتوقفت الجداول الصغيرة التي تسقي الأراضي.
ارتبك الجميع. فالقرية تعتمد على ذلك النهر منذ أجيال، وأي خلل فيه يعني تهديدًا مباشرًا بالهلاك؛ عطشًا أولًا، وجوعًا ثانيًا، وانهيارًا كاملاً للحياة التي اعتادوا عليها.
سعيد وقف صامتًا، قلبه يخفق بقوة. تذكر حلمه، وتساءل في نفسه:
"هل يمكن أن يكون هذا بداية الكارثة؟"
ليلى كانت بينهم، وجهها شاحب لكن عينيها مشعتان بصلابة غير معهودة. قالت بصوت ثابت:
"لا وقت للارتباك. علينا أن نعرف السبب. ربما سدٌّ انهار، أو الصخور سدت مجرى الماء. إذا انتظرنا، سنموت عطشًا."
تعالت الأصوات بين الرجال:
– "لن نغامر! الطريق إلى أعالي النهر خطير، مليء بالذئاب والمنحدرات."
– "لن نخاطر بحياتنا. الأفضل أن ننتظر… ربما يعود الماء وحده."
ضحكت ليلى بمرارة:
"هل سيعود وحده؟ أم ستسقط السماء ماءً علينا؟ إن كنا جبناء فلن يبقى لنا سوى انتظار النهاية."
سعيد شعر أن كلماتها تخترق صدره كالسهم. أراد أن يتكلم لكنه ابتلع صوته. كان داخله صوتان: أحدهما يصرخ أن يبقى في أمان القرية، والآخر يطالبه أن ينهض ويواجه.
الحاج فؤاد ظهر فجأة بين الجمع، متكئًا على عصاه، وصوته الهادئ يعلو على الضوضاء:
"لقد عشت طويلاً، ورأيت القرية تمرّ بمحن كثيرة. من يظن أن النجاة تأتي بالصمت مخطئ. الحياة لا ترحم الخائفين. إن لم نبحث عن السبب، سنهلك جميعًا."
التفت الحاج نحو سعيد، وكأن عينيه تخترقان خوفه:
"أنت يا سعيد، ما رأيك؟"
ارتبك سعيد، تلعثم قليلًا، ثم قال بصوت منخفض:
"أنا… لا أعرف. لم أذهب إلى أعالي النهر من قبل."
ابتسم الحاج ابتسامة صغيرة، وقال:
"إذن حان الوقت لتتعلم. لست وحدك. كل شاب في هذه القرية مدعوّ ليحمل نصيبه من المسؤولية."
كان عصام، ابن العم الذي طالما نافس سعيد واحتقره، يقف بجانب الجمع. رفع صوته ساخرًا:
"سعيد؟ هل تظنون أن هذا الخائف يصلح لشيء؟ لو رأى ذئبًا من بعيد، لركض باكيًا نحو أمه!"
ضحك بعض الشبان، وانكمش سعيد كأنه تلقى صفعة على وجهه. لكن ليلى تقدمت خطوة، نظرت إلى عصام بازدراء وقالت:
"الشجاعة ليست في اللسان يا عصام. حين يحين وقت الفعل سنرى من يهرب ومن يثبت."
كان ذلك الدفاع البسيط كالنار التي أشعلت شيئًا في صدر سعيد. شعر بامتنان خفي، لكنه ظل صامتًا.
مع اقتراب المساء، اجتمع وجهاء القرية في بيت الحاج فؤاد. القرار كان واضحًا: تشكيل مجموعة صغيرة تتوجه فجراً نحو أعالي النهر لتكتشف سبب انقطاع الماء. القلق يسيطر على الجميع، لكن لا بد من خطوة.
في تلك الليلة، لم يستطع سعيد النوم. جلس قرب النافذة، يتأمل القمر الذي يغطي القرية بنوره الباهت. سمع أصوات الكلاب في البعيد، ورأى أمه تجهز بعض الخبز والماء استعدادًا لرحلة الغد.
قالت له بهدوء وهي تضع يديها على كتفه:
"يا بني، لا تخف. الرجل لا يولد شجاعًا، بل تصنعه المواقف. ربما قدرك أن تكون واحدًا ممن ينقذون هذه القرية."
كانت كلماتها مثل البلسم على قلبه، لكنها أيضًا حملت ثقلًا كبيرًا. هل يمكن أن يكون بالفعل منقذًا؟ هو الذي طالما هرب من مواجهة أبسط المشكلات؟
قبل أن يخلد للنوم، تذكر حلمه مرة أخرى: ألسنة النار، صرخات الأطفال، الدخان. لكن هذه المرة، تذكر أيضًا أنه في الحلم كان واقفًا متجمدًا، عاجزًا عن الحركة.
تمتم في نفسه:
"غدًا… لن أسمح للخوف أن يشلني."
وبينما كان يغفو ببطء، كان صوت النهر الغائب يتردد في أذنيه كصرخة بعيدة تستنجد به.
الفصل الثالث
حلّ الفجر ببطء، وغمرت أشعة الشمس الأولى بيوت القرية الطينية بلون ذهبي هادئ. كان الجميع مستيقظين على غير عادتهم؛ أصوات الأمهات تهمس بالدعاء، وصغار يراقبون بفضول الرجال المتجمعين عند ساحة القرية.
سعيد كان هناك، يحمل على كتفه كيسًا صغيرًا فيه خبز وماء وبعض الأدوات البسيطة. قلبه يخفق كطبول الحرب، لكنه حاول أن يخفي ارتباكه. كل العيون كانت تلاحقه، بين ساخر مثل عصام، ومترقب مثل ليلى، ومتأمل مثل الحاج فؤاد.
قال الحاج بصوت ثابت:
"اليوم لن يكون سهلاً. الطريق إلى أعالي النهر وعر، ومن لم يُسلّم قلبه للصبر والعزم فليرجع الآن."
لم يتحرك أحد، وإن بدا الخوف واضحًا على الوجوه. تقدم الحاج ببطء، وأشار إلى الشبان الأربعة الذين وقع عليهم الاختيار: سعيد، عصام، ليلى، ورجل آخر يُدعى جابر، قوي البنية معروف بجرأته.
تحركوا جميعًا وسط صمت ثقيل، بينما نساء القرية يراقبنهم بقلوب مشدودة. كانت خطوات سعيد ثقيلة، كأن الأرض تمسك قدميه لتعيده، لكنه أجبر نفسه على المضي قدمًا.
---
مع الساعات الأولى من السير، بدأت معالم القرية تختفي وراءهم، وظهرت أمامهم غابات صغيرة تمتد حتى سفوح الجبال. كانت أصوات العصافير تملأ الجو، لكن خلف هذا الجمال كان هناك شعور خفي بالخطر.
قال جابر وهو يشق الطريق بعصاه:
"علينا أن نبقى متيقظين. الذئاب تقترب من هذه المناطق، خصوصًا في موسم الجفاف."
ابتلع سعيد ريقه بصعوبة. الذئاب كانت دائمًا هاجسه منذ الطفولة، قصص سمعها عن رجال هاجمتهم قطعانهم جعلت قلبه يضطرب كلما فكر بهم. حاول أن يركز على السير، لكنه كان ينظر يمينًا ويسارًا كل بضع لحظات.
عصام، كعادته، لم يترك الفرصة ليمر دون سخرية:
"انظروا إلى سعيد، وجهه شاحب كمن رأى الموت بعينيه. ربما سنحمله على أكتافنا إذا أغمي عليه."
اشتعلت ضحكة قصيرة من عصام، لكن ليلى ردت بسرعة:
"على الأقل سعيد هنا، لم يهرب كما هرب غيره. أما أنت، فالأيام ستُظهر حقيقتك."
ساد الصمت بعدها. سعيد شعر بشيء من الامتنان، لكنه في داخله كان يتساءل: هل سأثبت حقًا؟ أم سأخذلها كما أخذلت نفسي من قبل؟
---
مع منتصف النهار، وصلوا إلى منطقة صخرية مرتفعة، حيث كان عليهم عبور جسر خشبي قديم يربط بين ضفتي وادٍ ضيق. الجسر بدا مهترئًا، تتدلى بعض ألواحه وكأنه على وشك الانهيار.
قال جابر وهو يتفحصه:
"سنمر واحدًا تلو الآخر. لا تتوقفوا في المنتصف، ولا تنظروا للأسفل."
تقدم جابر أولاً بخطوات ثابتة، ثم تبعته ليلى. عندما جاء دور سعيد، تجمد في مكانه للحظة. الريح تعصف من أسفل الوادي، وصوت الخشب المتهالك زاد من رعبه.
سمع صوت عصام خلفه يقول ساخرًا:
"تحرك يا بطل. لا تجعلنا ننتظرك حتى الغروب."
أغمض سعيد عينيه لحظة، ثم بدأ يتحرك بخطوات مترددة. كل خطوة كانت كالسير على حد سيف. شعر بالعرق ينساب من جبينه، وركبتيه ترتجفان. فجأة، انكسر أحد الألواح تحت قدمه، فأطلق صرخة قصيرة وتمسك بالحبال الجانبية.
صرخت ليلى من الجهة الأخرى:
"تمالك نفسك! لا تنظر للأسفل، واصل السير!"
أخذ سعيد نفسًا عميقًا، جمع ما تبقى من شجاعته، وأجبر قدميه على الحركة. لحظة وصوله إلى الضفة الأخرى، سقط على الأرض لاهثًا، لكن في داخله شعر بوميض غريب: لقد واجه خوفه، ولو بشكل صغير.
---
مع حلول المساء، أقاموا مخيمًا صغيرًا عند سفح جبل قريب من منبع النهر. أشعلوا النار، وجلسوا حولها يتناولون ما تبقى من الخبز والماء.
قال جابر وهو يراقب اللهب:
"غدًا سنكون أقرب إلى الحقيقة. إن كان هناك سدّ طبيعي أو انهيار صخري، فسنجده. لكن إن كان السبب أكبر… فقد نحتاج إلى قوة لم نتخيلها."
نظر سعيد إلى النار، ورأى فيها صورة حلمه القديم: ألسنة تلتهم القرية. لكنه تذكر أيضًا الجسر الذي عبره قبل ساعات. ربما كانت الشجاعة تبدأ بخطوة واحدة، ولو ارتجفت قدماه أثناءها.
ليلى ابتسمت له وهمست:
"أنت بخير اليوم. كنت تظن أنك ستسقط، لكنك وصلت. هذه هي البداية فقط."
كلماتها جعلت صدره يدفأ. لأول مرة منذ زمن، لم يشعر سعيد أنه مجرد ظل للآخرين. صحيح أنه ما زال خائفًا، لكنه صار يعلم أن الخوف ليس نهاية الطريق، بل جزء منه.
وبينما النجوم ملأت السماء، أغفى سعيد بجانب النار، وقلبه يخفق لا من الرعب هذه المرة، بل من انتظار الغد وما يحمله من أسرار.
---
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon