NovelToon NovelToon

بين الحب والحريه

الفصل الاول

...بعد أن هدأت أصوات المعركة، وانخفض دوي القنابل والبنادق، عمّ الهدوء نسبيًا في المكان. في زاوية من الحانة، جلس ألكسندر على أحد المقاعد الخشبية، يسكب في كأسه رشفة من النبيذ الأحمر، ونظراته تتجول بين رفاقه الذين يضحكون ويغنون، يغمرهم جو من المرح محاولين التخفيف من وطأة الحرب....

...فجأة، ارتفعت أصوات في الحانة، حيث صرخ صاحبها بأعلى صوته:...

..."تكريماً لجنودنا الأبطال، جهزنا لكم الليلة مجموعة من الفتيات الجميلات، سيعملن على إراحة نفوسكم. لا تقلقوا، هنَّ فاتنات وماهرات!"...

...دخلت الفتيات مرتديات أزياءً فاضحة بعيداً عن الحشمة، تجولت بين الجنود الذين لم يتوقفوا عن المزايدة والمغازلة....

...وقفت إيزابيل هناك، تنظر حولها بعينين تكتنفهما الحزن، بينما اقترب منها أحد الجنود وهمس بلهجة وقحة:...

..."أيتها الجميلة، ما ثمنك؟"...

...نظرت إليه ببرود وقالت:...

..."أنا باهظة الثمن، لا تستطيع الحصول علي."...

...ضحك الجندي بقهقهة عالمة، وصاح بصوت عالٍ للرفاق:...

..." تقول هذه العاهرة انها باهظة الثمن؟"...

...توالت الضحكات الساخرة من الجنود، وغاص قلب إيزابيل في بحر من الألم والخذلان....

...لكن فجأة، وقف ألكسندر، صوته صارم:...

..."أيها الأوغاد، ما شأنكم بالسخرية من امرأة؟"...

...اقترب بوقار نحو إيزابيل وقال:...

..."أعتذر إن أزعجك جنودي، آنستي."...

...ابتسمت إيزابيل بخفة، محاولة أن تخفي ألمها:...

..."سيدي، يا صاحب الموقف النبيل، سيدي سيوبخني إن لم أجذب أحدًا لتسلية هذه الليلة."...

...ابتسم ألكسندر قائلاً:...

..."أنا رجل عفيف."...

...ضحكت بخفة وقالت:...

..."وماذا يفعل الرجل العفيف في دار الهوى؟"...

...فجأة، اقترب سيدها منها بعنف، وصفعها حتى سقطت على الأرض....

...اندفع الرجل معتذرًا إلى ألكسندر عدة مرات....

...ابتسم ألكسندر مطمئنًا:...

..."لا بأس، هي لم تخطئ."...

...نظر إلى إيزابيل وأضاف بنبرة هادئة:...

..."وجودي هنا لا يعني أنني أريد شيئًا من أي امرأة. أنا فقط أرفه عن نفسي وعن جنودي."...

...التفت وعاد إلى مكانه، بينما همس السيد في أذن إيزابيل بغضب:...

..."انهضي وأكملي عملك، إن لم تقنعي أحدًا سأطردك الليلة."...

...اعتدلت إيزابيل في وقفتها، نظرت إلى ألكسندر وقالت:...

..."شكرًا لك على تذكيري بفضلك، سأطرد ."...

...ابتسم ألكسندر ورد بلطف:...

..."على الرحب والسعة، آنستي."...

...حلّ منتصف الليل، وغادر الجميع، وساد الهدوء في الحانة البائسة. لكن في أعماق إيزابيل، كان بركان من الألم والغضب يغلي بلا توقف....

...جسدها المملوء بالكدمات والجروح من توبيخ سيدها كان يئن من التعب، إذ أُجبرت على أداء مهامها بلا هوادة، بلا رحمة....

...غادرت الحانة بخطوات متثاقلة، وعادت إلى منزلها الصغير والكئيب. دخلت، وجلست على الكرسي المتهالك، وأغمضت عينيها لبرهة، قبل أن تتمتم بصوتٍ منخفضٍ يخترق صمت الليل:...

..."سحقًا لهذا العالم الذي لا يرحم أحدًا... وسحقًا للأثرياء والنبلاء، مدعي الشرف والكذب. ليت العالم ينصف الفقراء... ليت الحروب تدمر النبلاء."...

...رفعت عينيها إلى سقف الغرفة المظلم، واصفة نفسها بحسرة:...

..."كم أشفق على نفسي... حافظت على شرفي رغم كوني بائعة هوى... كم أكره سماع مغازلة الرجال..."...

...أغمضت عينيها ثانية، وحاولت أن تخفي دموعها خلف جفونها، وأضافت بصوتٍ مكسور:...

..."لا يهم أن كان الألم يغطي جسدي، لا يهم أن أتعرض للضرب كل يوم... فقط أدعو الله أن يرحمني، وينقذني من هذه المحنة التي لا تنتهي."...

...في قلب باريس، حيث الليل خيم بسكونه على المدينة، كان ألكسندر جالسًا خلف مكتبه، تحيط به هالة من الرقي والنبل. فجأة، طرق الباب بخفة، فطلب منه الدخول....

...دخل الجندي وهو يحمل رسالة رسمية من والده، سلمها إلى ألكسندر، الذي طلب من الجندي المغادرة....

...جلس ألكسندر ببطء، رفع الرسالة بين يديه، ونظرة قلق تخترق وجهه الصارم. همس لنفسه:...

..."لا أرى فيها خيرًا..."...

...فتح الرسالة وقرأ محتواها بصوت داخلي:...

..."بني ألكسندر، أحييك على شجاعتك ونبلك في قيادة الحروب. والدفاع عن الملك ببساله فرنسا تفتخر بقادتها وجنودها الأبطال....

...أدعوّك إلى الحضور إلى المنزل لعقد قرانك بالسيدة كلير دو لانوا، ابنة أحد الشرفاء، السيد لوران دو لانوا....

...ننتظر قدومك هذا السبت حيث ستجتمع العائلات....

...طِبْتَ سالماً."...

...اضطر قلب القائد القوي لأن يعصر من التوتر والقلق. وضع الرسالة جانبًا، وقال بصوت مكبوت:...

..."يا الله، أدعوك أن تبعد عني هذا الأمر، فلا طاقة لي بتحمله الآن."...

...صباحٌ بارد لفَّ العاصمة باريس، حيث غطّى الضباب شوارعها الضيقة وأبقى نوافذ الحانات مبللة بالندى....

...دفعت إيزابيل باب الحانة الخشبي ودخلت، تبحث بعينيها عن وجه مألوف بين الزبائن. اقتربت منها إحدى العاملات وهمست:...

...– " إيزابيل… هناك رجل نبيل يسأل عنك."...

...التفتت إيزابيل بسرعة، فإذا به السيد الشاب هنري دي فالوا يقف بانتظارها. ارتسمت ابتسامة واسعة على وجهها، وأسرعت نحوه لترتمي في حضنه، وهمست:...

...– "اشتقت إليك."...

...ابتسم هنري وقال بصوت دافئ:...

...– "الشوق لا يفارق قلبي."...

...جلسا معًا حول إحدى الطاولات الخشبية في ركن الحانة. أمالت إيزابيل رأسها قليلًا وسألته:...

...– "متى وصلت إلى باريس؟"...

...رد بابتسامة خفيفة:...

...– "الحروب تحتاج إلى جنودها… والقلوب تحتاج إلى سيداتها."...

...ضحكت وقالت:...

...– "أراك مفعمًا بالنشاط والحيوية."...

...– "رؤية عينيكِ تملأ قلبي بالقوة."...

...ابتسمت بخجل وقالت:...

...– "كفاك غزلًا أيها النبيل."...

...تنهدت ثم أضافت:...

...– "سيدي النبيل، لا يليق برجل مثلك أن يجلس في مكان كهذا."...

...ضحك بخفة:...

...– "وماذا عنكِ أنتِ؟"...

...نظرت إليه نظرة طويلة وقالت:...

...– "هل نسيت طبيعة عملي؟"...

...اقترب منها أكثر وهمس:...

...– "أحمل لكِ أخبارًا ستسرك."...

...اتسعت عيناها بشغف:...

...– "ما هي؟"...

...تنفس بعمق وقال:...

...– "توفي والدك… بعد صراع طويل مع مرضٍ مزمن."...

...أطرقت إيزابيل برأسها، وصوتها يخرج متهدجًا:...

...– "لقد تحقق دعائي… دعوت الله أن يذيقه الألم والمرارة، وألا يموت إلا وهو يتألم… لقد تحققت العدالة الإلهية."...

...أومأ هنري برأسه ببطء، وقال:...

...– "تهانينا على تحقق دعائك…"...

...جزء من ماضي ايزابيل :- ...

...كانت السماء ملبدة بالغيوم، والمطر ينقر على سقف الأكواخ الفقيرة كأن الطبيعة تبكي حال ساكنيها. جلست إيزابيل الصغيرة، ذات الاثني عشر ربيعًا، على طرف السرير الخشبي المهترئ، تحتضن دميتها البالية بكل قوة وكأنها آخر ما تبقى من عالمها البريء....

...فتح الباب فجأة، ودخل والدها بخطوات ثقيلة ووجهه متجهم. كان يحمل في عينيه بريقًا غريبًا، خليطًا من اليأس والطمع....

...قال بصوت أجش:...

..."قومي… ارتدي هذا الفستان."...

...نظرت إليه بخوف وهي تقول:...

..."لماذا؟ إلى أين سنذهب؟"...

...لم يجبها، بل أمسك بذراعها بقسوة، حتى شعرت بأصابعه تنغرز في جلدها. خرج بها إلى الشارع المبتل، والبرد ينخر جسدها الصغير. توقفت أمام حانة يعلو بابها ضوء أحمر خافت، وهناك كانت تقف امرأة ضخمة الجسد تبتسم ابتسامة باردة....

...سلّمها والدها لتلك المرأة، وتبادل معها بضع كلمات سريعة لم تفهمها، قبل أن تلمح إيزابيل في يده بضع عملات فضية. شعرت بشيء ينكسر في قلبها… لم يكن مجرد الخوف، بل الخيانة....

...صرخت وهي تبكي:...

..."أبي! لا تتركني! أعدني إلى البيت!"...

...لكن صوته جاء بارداً، وكأنه لم يكن يومًا والدها:...

..."البيت لا يُطعم الجائعين يا إيزابيل… ستعيشين حياة أفضل هنا."...

...ورحل، تاركًا خلفه ابنة تباع لأول مرة… وبداية حياة لم تخترها....

الفصل الثاني

...في صباح يوم السبت، كان قصر عائلة دو نيل يعبق برائحة الخبز الطازج والزهور التي تناثرت على أرجاء المائدة الطويلة. وصل ألكسندر بخطوات ثابتة، وألقى التحية على والده ووالدته اللذين استقبلاه بعناق دافئ وعاطفة صادقة. جلس الجميع حول المائدة التي ازدانت بأصناف فاخرة من الطعام والشراب، لكن والد ألكسندر لم يُخفِ قلقه وهو يتفحص ملامح ابنه....

..."أراك أصبحت أنحف يا بُني… هل تُرهقك الحروب؟" قالها بصوت يحمل مزيجًا من الفخر والخوف....

...أومأ ألكسندر برأسه وهو يجيب: "لن أكون رجلاً يا أبي إذا لم أخض تلك الحروب."...

...لم تمضِ لحظات حتى وصلت الآنسة كلير دو لانو برفقة والدها السيد لوران دو لانو. نهض ألكسندر مرحبًا بهما بكل نُبل، وجلس الجميع مجددًا. ابتسم والد ألكسندر قائلاً:...

..."انظر يا بني… هذه خطيبتك المستقبلية، الآنسة كلير دو لانو. ربما لا تتذكران بعضكما، لكنكما كنتما معًا في طفولتكما… شاءت الأقدار أن تفترقا وتلتقيا من جديد وأنتم شباب."...

...تعالت أصوات الضحك، إلا أن ألكسندر ظل صامتًا، وفي داخله شعور غامض بالانزعاج....

...بعد انتهاء الغداء، خرج ألكسندر يتمشى في حديقة القصر، يراقب أوراق الشجر وهي تتمايل مع الريح. اقتربت منه كلير بابتسامة هادئة وقالت:...

..."كيف حالك يا سيدي؟ كنتَ هادئًا على غير عادتك أثناء الغداء."...

...التفت إليها قائلاً: "وما رأيك أنتِ بهذه الخطبة؟"...

...ابتسمت بخفة وأجابت: "لا رأي لي… والدي هو من يقرر."...

...ضحك ألكسندر بسخرية خفيفة: "عجبًا يا آنسة… ألا رأي لكِ في أمر كهذا؟ أنا قائد حروب تتجنبني النساء لأن حياتي بين ساحات القتال أكثر من المنازل، معرض للموت في أي لحظة… ألا يضايقك ذلك؟"...

...أجابته بابتسامة أوسع: "هل تعطيني الأسباب حتى أرفضك؟ حينها سأكون الملامة… وإن لم ترغب أنت في هذه الخطبة، فلتخبر عائلتك بنفسك يا سيد دو نيل."...

...أومأ ألكسندر برأسه وقال: "أحييك على شجاعتك… لكن هل تظنين أنني جبان؟ سأخبرهم."...

...ابتعدت كلير بخطوات واثقة، تاركة ألكسندر في الحديقة يحاول تصفية ذهنه، بينما نسيم المساء البارد يعبث بخصلات شعره، ويشتت أفكاره أكثر مما يجمعها....

...بعد أن انفضّت الوليمة، جلس الكسندر أمام والده في قاعة الطعام، حيث لا يزال عبق الشموع يملأ الجو ورائحة اللحم المشوي تتسلل إلى المكان....

...رفع الوالد بصره إلى ابنه، ولاحظ ملامح التوتر تكسو وجهه:...

...— ما لي أراك شارداً يا بُني؟...

...زفر الكسندر ببطء، وكأنه يبحث عن الكلمات وسط ضجيج قلبه، ثم قال:...

...— يا أبي، قلبي مثقل بويلات الحروب. أنا قائد عسكري ملكي، أدافع عن الملك في زمن تعصف به نار التمرد، لكن… الزواج الآن؟ أشعر أني سأظلم الآنسة كلير دو لانو إن ارتبطت بي....

...انعقد حاجبا والده وهو يميل بجسده للأمام:...

...— يا بني، ناقشنا الأمر وانتهى. هذا الزواج سيجمع عائلتين شريفتين، والآنسة كلير فتاة متفهمة. الأفضل لك أن تبدأ عائلتك الآن، لا أن تبقى أسير ميادين القتال وحدك....

...أخفض الكسندر نظره ثم رفعه بعناد:...

...— لا طاقة لي على مجادلتك، لكن اعذرني… موقفي ثابت....

...نهض من مكانه، وقبل أن يغادر ألقى نظرة على والده وقال بصوت منخفض كطعنة:...

...— قلوب الرجال أقسى من الحجر....

...بقي الوالد جالساً، يطرق بأصابعه على الطاولة في صمت ثقيل. اقتربت منه زوجته، وضعت يدها على كتفه وسألته:...

...— ما بك؟ تبدو مرهقاً....

...أجاب وهو يشيح بوجهه:...

...— تمرد ابننا… سيجعل أيامنا القادمة أكثر صعوبة....

...في قلب باريس، كانت الشمس تلملم آخر خيوطها خلف الأفق، تاركة السماء بلون نحاسي يختلط ببرودة نسيم المساء. جلس ألكسندر على مقعد خشبي قرب ساحة صغيرة، قلبه مثقل، وعقله غارق في دوامة أفكار لا تهدأ....

...مزق صوت مألوف سكونه:...

...– "ما خطب قائدنا؟ أراه غارقًا في بحر من الهواجس... أم أن امرأة ما سلبت قلب الرجل الحديدي؟"...

...التفت ألكسندر ليرى هنري دي فالو، صديقه القديم، يبتسم بخبث وهو يقترب. نهض ألكسندر وعانقه بحرارة....

...– "متى عدت إلى باريس؟"...

...– "القلب العاشق أعادني، يا صديقي."...

...رفع ألكسندر حاجبه بابتسامة ساخرة:...

...– "ويحي! ومن تكون هذه التي دفعت هنري ليقطع المسافات عائدًا إلى هنا؟"...

...لم يُجب هنري مباشرة، بل أطلق كلمات غامضة تتغزل بجمال مجهول، وكأنها قصيدة لا يريد الإفصاح عن اسمها....

...– "تهانينا إذن أيها العاشق."...

...ابتسم هنري ثم ألقى نظرة فاحصة على صديقه:...

...– "لكن ما لي أراك مهمومًا؟"...

...تنهد ألكسندر ببطء:...

...– "وماذا قد يثقل قلب الرجل غير الحروب... وعائلته؟"...

...– "خيرا، ماذا هناك؟"...

...– "عائلتي تريد مني الزواج... حتى أنهم رتّبوا كل شيء بدوني."...

...ضحك هنري:...

...– "أخفتني يا رجل! ارفض ببساطة. إن لم ينبض قلبك، فلا جدوى من الموافقة."...

...ثم أضاف بابتسامة ماكرة:...

...– "دعني أدعوك الليلة إلى الشراب. هناك مكان يشدّني دائمًا، أريدك أن ترافقني."...

...نظر إليه ألكسندر بنصف ابتسامة:...

...– "وهل محبوبتك هناك؟"...

...أومأ هنري بثقة:...

...– "أجل... لكنها لا تعلم حتى الآن كم أحبها."...

...في أروقة العاصمة التي غمرها الليل، اختفى بريق الشمس خلف الأبنية القديمة، وغطّت الأزقة رائحة الخمر والدخان. من بعيد، كانت أصوات الضحك الصاخب تتعالى من حانة صغيرة يزدحم فيها البحّارة والجنود الهاربون من جبهات القتال....

...دفع هنري باب الحانة بخطوة واثقة، وإلى جواره كان صديقه ألكسندر يسير بصمت، يتفحّص المكان بعين حذرة. اختارا طاولة جانبية، وما إن جلسا حتى بدأ هنري يلتفت هنا وهناك، كطفل يبحث عن شيء ضائع....

...– "مالي أراك تتلفّت هكذا؟" قال ألكسندر، وعيناه تراقبانه بريبة....

...– "عندما يعشق الرجل…" ابتسم هنري بخفة، "…لا يدرك أنه عاد طفلاً يبحث عن محبوبته."...

...لكن كلماته انقطعت بصوت أنثوي عذب، جعل كلاهما يلتفتان. كانت إيزابيل تقف أمامهما، وعينيها تحملان بريقًا لا يشبه أي بريق آخر. اقتربت بخطوات بطيئة وقالت لهنري:...

...– "وما الذي جاء بالسيد النبيل إلى هنا؟"...

...ضحك هنري، وأجاب:...

...– "الشوق… ورغبة في أن أرفه عن نفسي وعن قلب صديقي ألكسندر المثقل."...

...التفتت إيزابيل نحو ألكسندر، وابتسامة ماكرة ترتسم على شفتيها:...

...– "وماذا يفعل النبيل العفيف بين هذه الجدران؟"...

...خفض ألكسندر بصره، متجنبًا الإجابة، بينما عادت هي للحديث مع هنري. لحظة صمت ثقيلة تبعتها أكواب الخمر التي امتلأت على الطاولة....

...اقترب ألكسندر من هنري هامسًا:...

...– "هل تلك هي محبوبتك؟"...

...أومأ هنري برأسه وهو يبتسم:...

...– "على مهلك… قد تسمعك."...

...– "هل جننت؟" قال ألكسندر بحدة خافتة، "إنها بائعة هوى… متاحة لكل الرجال."...

...– "إيزابيل مختلفة،" تمتم هنري بثقة، "ليست كسائر النساء الأخريات."...

...لكن في تلك اللحظة، التقت نظرات ألكسندر بنظرات إيزابيل. نظرة طويلة، بلا كلمات، وكأنها تحمل تاريخًا لا يعرفانه بعد....

...مع نهاية السهرة، كان هنري يسند جسده على كتف ألكسندر، مثقلاً بآثار الشراب. اقتربت إيزابيل، وعينيها تتفحّصانهما:...

...– "لقد أثقل السيد هنري بالشرب."...

...– "سأعتني به." رد ألكسندر ببرود....

...ابتسمت ابتسامة غامضة:...

...– "إذن، أيها النبيل العفيف… اهتم به جيدًا."...

...غادر ألكسندر دون رد، تاركًا إيزابيل واقفة عند المدخل، تحدق بهما حتى ابتلعهما الظلام....

الفصل الثالث

...في صباح اليوم التالي، أشرقت الشمس بنورها الذهبي على أرجاء المدينة، لتزيح ببطء ظلال الليل وتغمر باريس بأجواء هادئة تنبض بالحياة....

...فتح هنري عينيه بصعوبة، ووضع يده على رأسه يئن من الصداع الحاد الذي خلفته ليلة الشراب....

...همس الكسندر وهو يقترب منه مبتسمًا:...

...— صباح الخير، أيها العاشق البائس....

...ابتسم هنري بتعب وقال:...

...— أشعر بجفاف في فمي، والصداع يأكل رأسي. أقسم لك، لن أشرب مرة أخرى....

...ضحك الكسندر ساخرًا:...

...— سأكون أول من يشهد على كلامك في المرة القادمة....

...لم تمض لحظات حتى طرق باب الغرفة أحد الجنود، فأشار الكسندر له بالدخول....

...دخل الجندي وألقى التحية بكل احترام:...

...— القائد العام يطلب رؤيتك يا سيدي....

...أومأ الكسندر بجدية:...

...— أخبره أنني تلقيت الرسالة وسأكون هناك قريبًا....

...خرج الجندي، واقترب هنري بقلق من صديقه:...

...— لا أراه خيراً ، يا صديقي....

...ابتسم الكسندر بتصميم:...

...— كونك قائدًا أو جنديًا، عليك أن تكون مستعدًا لكل شيء....

...وصل ألكسندر إلى قاعة القائد العام، حيث كان الهواء يعبق برائحة الورق القديم وعبء المسؤولية....

...ألقى التحية بإحترام، ورد القائد بابتسامة متجعدة، قائلاً:...

...— سيد دو نيل، سمعت تقارير عن تجمعات متزايدة للشعب في الحانات والمقاهي ليلاً، يدبرون تمردًا....

...أومأ ألكسندر بجدية:...

...— جوع الشعب المستمر سيدفعهم في النهاية إلى التمرد، سيدي....

...نهض القائد، وهو رجل صارم يُدعى مارشال لوكلير، وقال بصرامة:...

...— تمرد الشعب على الملك هو علامة طغيان بلغ حدّه، ويجب أن نضع حدًا له قبل أن يتوسع شراره....

...أمر قائلاً:...

...— ازرع الجواسيس في كل زاوية من زوايا المدينة....

...التفت ألكسندر إليه قائلاً بثبات:...

...— أمرٌك سيدي....

...خرج ألكسندر من القاعة، والثقل يضغط على صدره كحجر ثقيل، إذ كان يعلم أن هذا الصراع لم يكن سوى بداية لمعركة أكبر وأصعب....

...في أحد أزقة المدينة الضيقة، حيث كانت رائحة الفقر تعبق في الهواء، امتلى المكان بجموع المتسولين والوجوه الشاحبة التي حاصرتها قسوة الجوع....

...كانت إيزابيل تمشي ببطء بين تلك النفوس المتعبة، تراقب أعينها المتعبة واليدين المرتجفتين التي تمددت لطلب قطعة خبز أو قليل من الحنان....

...من بعيد، لاحظت تجمعًا صغيرًا من الناس يتبادلون الحديث بقلق وهمس، فاقتربت بحذر وسألت أحدهم:...

...— ما الذي يحدث هنا؟...

...رفع الرجل وجهه المتعب وقال بصوت متقطع:...

...— ارتفاع أسعار الخبز… سيجلب لنا الهلاك....

...لم نعد نحن الفقراء قادرين على ملء بطوننا....

...إنهم يضيقون علينا سبل العيش، وكأن العالم خُلق للملك والنبلاء وحاشيتهم فقط....

...امتلأ قلب إيزابيل بالألم والحزن، همست لنفسها:...

...— أعان الله هذا الشعب البائس الجائع…...

...ثم أدارت ظهرها، وخطت بخطى متسارعة، والوجع يعتصر قلبها كالسكاكين، تتمنى لو كانت تستطيع أن تفعل أكثر من مجرد الوقوف شاهدة على معاناة من حولها....

...عادت إيزابيل إلى الحانة، فإذا بصوت سيدها يوقفها بحدة:...

...— ما شأنك؟ تأخرتِ كثيرًا اليوم....

...التفتت إليه، وعيناها لا تخفيان دموعًا لم تجف بعد، وقالت بصوت متهدج:...

...— تمشيت بين العامة، ورأيت أشياء مزقت قلبي ودمعت عينيّ....

...ضحك هو بسخرية قاسية:...

...— اهتمي بنفسك، أيتها البائسة، ولا تضعي قلبك على هموم المتمردين. نهايتهم الموت على يد أصحاب السلطة....

...وقفت إيزابيل تهمهم بين نفسها، وكأنها تصرخ بصمت:...

...— قطع الله الترف عن النبلاء، أكلي لحم الفقراء......

...ثم التفتت وعادت إلى عملها، وعلى وجهها تعبير من الإصرار والعناد، كأنها تعاهد نفسها ألا تنكسر مهما كانت الظروف....

...يتراقص ضوء الشموع الخافت على جدران الحانة المتهالكة، مختلطاً برائحة النبيذ الرخيص والدخان الكثيف والخبز المحمص. الطاولات متقاربة، والأحاديث تتداخل كأنه نهر جارف من همسات وضحكات ونقاشات حادة....

...في زاوية مظلمة قرب المدخل، جلس ثلاثة رجال وامرأة حول طاولة خشبية صغيرة. أمامهم أكواب نصف ممتلئة بالنبيذ، ووجوههم تميل نحو بعضهم البعض وهم يخفضون أصواتهم كلما مر أحد بالقرب منهم....

...ضغط جان، الحداد العريض الكتفين، قبضته على الطاولة وقال بغضب:...

..."الملك لا يرى معاناتنا... أطفالنا جائعون ونحن نكدح من الفجر حتى الغروب. لا يمكن أن يأتي التغيير ونحن جالسون ننتظر!"...

...أجاب بيير، الشاب النحيل ذو العينين اللامعتين:...

..."هناك خطة. سنتجمع مع باقي الرجال أمام الباستيل، هذا السجن رمز الظلم. سقوطه سيشعل نار الحرية."...

...نظرت ماري، المرأة الوحيدة بينهم، بحذر وقالت بصوت منخفض:...

..."اخفض صوتك. هناك جواسيس في كل مكان، حتى سقف هذه الحانة له آذان."...

...ابتسم بيير بمرارة، وميل أكثر نحوهم:...

..."إن لم نخاطر الآن، فلن نعيش أحرارًا أبداً."...

...اقتربت إيزابيل منهم وهمست بصوت عذب:...

..."ما طلب سادتي اليوم؟"...

...ردت ماري:...

..."أربع كؤوس من النبيذ، من فضلك."...

...ابتسمت إيزابيل وأخذت الطلب، وفي تلك اللحظة دخل رجل يحمل حقيبة بيده. اقترب من الطاولة التي يجلسون عليها....

...همس جان:...

..."أعرفكم عليه  إنه جندي في الجيش الملكي الفرنسي."...

...فزعت ماري:...

..."هل فقدت عقلَك، جان؟"...

...ابتسم الجندي بهدوء:...

..."كوني جنديًا لا يعني أنني نبيل. أنا من عامة الشعب، وكنت أتحمل الضرائب الثقيلة مع عائلتي، وأذقنا الجوع والألم، بينما الملك وعائلته يعيشون في ترف لا مثيل له."...

...قال بيير بسخرية:...

..."يا لسخرية القدر، إن لم يشعر الملك بمعاناة شعبه وجوعه، فهو لا يستحق أن يكون على عرشه."...

...قاطعه الجندي قائلاً:...

..."هناك كثيرون مثلنا يعانون، وهم يجتمعون في أماكن مختلفة. يجب أن نكون حذرين، فالملك وأعوانه زرعوا جواسيس في كل مكان."...

...تنهدت ماري وقالت بحزم:...

..."هذه الحياة القاسية لا تحتمل المزيد. توفير حياة كريمة لا يخصنا فقط، بل عائلاتنا وأطفالنا في المستقبل. علينا أن نصنع فرنسا حرة من الظلم والفقر."...

...تلألأت أعينهم بشرارة الحرية ونبذ الفقر والظلم، واستشعروا معًا أن الفجر الحقيقي على الأبواب....

لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon

تحميل PDF للرواية
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon