NovelToon NovelToon

اكره ان احبك

الفصل الأول

"كنتُ أعود كل ليلة بحثًا عن حضن،

فوجدتُ أبوابًا تُغلق في وجهي...

وصوتًا يذكرني أنني لست كما تمنّوا"

كانت الساعة تقترب من العاشرة ليلًا، والمدينة خارج النافذة تلمع بأضواء خافتة كأنها تخجل من الليل.

فتحت الباب بهدوء، وخلعت حذاءها كما تفعل كل مساء.

كالعادة ، لم يكن بانتظارها إلا الغضب الخام.

"أخيرًا قرّرتِ العودة، آنسة النكران؟"

صوت والدها شقّ سكون البيت مثل شفرة.

كان واقفًا في منتصف غرفة الجلوس، يلوّح بورقة ما في يده، ملامحه مشدودة، عينيه تغليان.

وضعت حقيبتها جانبًا، تنفست... ثم تقدّمت خطوة.

"بابا، كنتُ في العمل... تأخّرت الحافلة."

"العمل؟ تسمي هذا عملًا؟ تقديم قهوة وحمل صحون انسة جيون جومانا؟

أهذا ما خرجنا به بعد أربع سنوات من دراسة القانون؟ شهادة بلا فائدة، وابنة بلا كرامة؟"

ظهرت أمها من المطبخ، بشعر مربوط بعشوائية ووجه شاحب.

"ما الفائدة من الدراسة إن كنتِ ستبقين عبئًا؟ حتى مظهركِ... كئيب. كأنكِ تلعبين دور الضحية في مسرحية رديئة!"

جومانا أغمضت عينيها لحظة.

لم تكن تملك طاقة للرد، لكنها لم ترد السكوت تمامًا.

"أنا... أبحث، كل يوم. أرسلت سيرتي الذاتية لعشرات الأماكن."

"وهل طلبكِ وظيفة يُعد إنجازًا؟"

قال والدها بسخرية.

"أنا أقول للناس إن ابنتي محامية، لا مهرّجة تقدّم المثلجات للأطفال."

أمها تابعت كأنها في سباق:

"أنتِ حتى لا تجيدين التحدث. شخصيتكِ ضعيفة. مترددة. تبكين بسرعة، تتوترين من نظرة.

هكذا تريدين العمل في المحاماة؟ مع من؟ مع من سيأخذكِ على محمل الجد؟"

رفعت عينيها بينهما

- "كفى... أرجوكم... أنا أحاول ."

أمها انفجرت:

"تحاولين؟ منذ سنتين وأنتِ في المحاولة. وكل يوم نعود إلى النقطة نفسها: لا وظيفة، لا تقدم، لا أمل!"

اقترب والدها أكثر، صوته صار هادئًا... ومؤذٍ:

"فيلِكس الآن في أوائل دفعته. الناس يمدحونه. وأنتِ؟.... نخجل أن نذكرك.

لا عقل، لا طموح، ولا حتى أنوثة."

شعرت بحرارة في صدرها، كأن كل شيء يشتعل.

لم يكن غضبًا، بل خجلًا، وجرحًا لا دم له.

همست:

"أنا ابنتكم... لماذا تكرهاني هكذا؟"

ضحكت والدتها ، ضحكة خالية من الرحمة:

"نحن لا نكرهكِ، نحن نكره ما صرتِ إليه."

"لو أنكِ فقط... مختلفة قليلاً."

"لو أنكِ فقط لستِ أنتِ."

الكلمات سقطت على جومانا كحجارة.

لم تردّ.

ذهبت إلى باب المنزل.

فتحت القفل.

خرجت.

لم تكن تعرف إلى أين ستذهب.

ولا كم ستبقى.

لكنها عرفت شيئًا واحدًا:

إن بقيت دقيقة إضافية، سينهار شيء لا يمكن إصلاحه.

خلفها، عاد البيت إلى سكونه.

لم يصرخ احدا.

لم يكسر احدا.

تمشي في الشارع...

والدموع على وجنتيها

ديسمبر قد دخل بثقله،

الرياح التي ضربت وجهها عند أول زاوية جعلتها ترفع ياقة معطفها وتحضن جسدها المرتجف.

شعرها البني المموّج تراقص مع الرياح، كأنه يحاول تخفيف وطأة البرودة عن روحها.

الأول من ديسمبر.

بقي على عيد ميلادها أربعة عشر يومًا.

هل ستحتفل به وحدها... مجددًا؟

أجابت نفسها بسخرية صامتة وهي تواصل السير:

"وهل احتفلتُ به يومًا؟"

خطواتها تقودها دون وعي،

حتى وجدت نفسها تقف أمام باب مكتبة صغيرة، ليست بعيدة... ولا قديمة.

فتحت الباب بهدوء.

رنّ الجرس فوقها بصوت خافت، واستقبلها دفء داخلي لم يشبه دفء البيوت.

رجل عجوز كان جالسًا خلف المنضدة، يقرأ كتابًا بإمعان.

رفع نظره إليها، وابتسم.

ابتسمت له بالمثل، رغم أنها بالكاد قادرة على رفع زوايا فمها.

ثم توجهت بصمت إلى قسم الروايات.

تعرف هذا المكان.

ملاذها في الأيام المكسورة.

مرّت يدها على عناوين الكتب كما لو كانت تلمس أكتاف أصدقاء قدامى.

اختارت روايةً بلا تفكير، وجثت أرضًا، جلست أمام الرف مباشرة، ضامة ركبتيها إلى صدرها.

لا أحد في المكان سواها.

ولا أحد في الدنيا يشعر بثقل ما تحمل.

الدموع جاءت بهدوء.

لم تبكِ بصوت.

وجنتيها امتلأتا بحرارة تسيل بلا مقاومة.

لم تكن تبكي لأن والديها صرخا.

بل لأنها، رغم كل شيء... كانت تأمل أن يفرحا بها.

أن يكونا أول من يصفّق. أول من يحتضنها. أول من يرى النور الذي بذلت سنوات لتشعله.

لكن لا شيء.

هم لا يعرفون حتى أنها كاتبة.

أنها هي من كتبت تلك الرواية التي اجتاحت القوائم، وتصدّرت الترجمة، وبيعت في أكثر من بلد، ودُبلجت لأكثر من لغة.

هم لا يعرفون أن ابنتهم... صنعت مجدًا كاملًا بقلم مستعار، واسم لا يخصهم.

وكل ذلك؟

ليس لأنها تريد إخفاء فخرها،

بل لأنها تخجل من أن تُعرف... في ظل عائلة تخجل هي بها.

لم تعلم دار النشر من تكون.

لم يعلم القرّاء من تكون.

هي التي تدفع فواتير المنزل إذا تأخر والدها، وتبتسم كأن الأمر بسيط.

هي التي تُدخل المال باسم أحد آخر كي لا تُسأل.

هي التي تُرسل الهدايا لفيلِكس من دون أن تُوقّع.

لكن، ماذا بعد؟

حين احتاجت كلمة واحدة فقط...

كلمة: "أحسنتِ."

لم تجدها.

بل وجدت الصراخ.

وجدت الإهانات.

وجدت نفسها تمشي في البرد، تحمل قلبًا كُسر مرارًا... ومع ذلك، ما زال ينبض أملًا.

نظرت إلى الكتاب بين يديها.

لم تقرأ منه سطرًا.

كانت تعرف النهاية:

الذين يُحبّونك فقط حين تنجح...

هم ليسوا أهلًا للفرح معك.

أغمضت عينيها.

وللحظة قصيرة...

تمنت لو كانت تنتمي لمكان آخر.

ولو حتى قلب غريب... يؤمن بها، فقط لأنها هي.

.

.

.

.

جالسة هناك، على الأرض، بين رفوف الروايات ، ظهرها مسنودٌ إلى الخشب الدافئ، ورائحة الورق القديم تغمر أنفاسها.

المكتبة خالية... فقط صوت عقارب الساعة، وتقليب الصفحات.

ضوء خافت يسقط من مصباح معلق في الزاوية، يحيطها بهالة صفراء كأنها عالقة في حلم بعيد.

ليست هنا لتقرأ... بل لتختبئ.

البرد لا يرحم

ولا تقصد الطقس وحده، بل الأيام التي تقترب من عيد ميلادها، ذلك التاريخ الذي يمر كل عام بهدوء... مثل صفعة صامتة.

أفكارها تتجول في مكان آخر،

في والدتها التي لا تنظر إليها،

في والدها الذي يرى فيها عارًا يجب إخفاؤه،

وفي أخيها... الذي لم تعد تعرف إن كان يراها حقًا.

رغم كل شيء... كانت تساعدهم دائمًا.

تطبخ، تنظف، تتحمل، تدفع إن استطاعت، وتبتلع كل خيبة بصمت.

حتى نجاحها... أخفته عنهم.

حتى اسمها... جعلته مستعارًا.

من يدري أن "جي. جوليانا" الكاتبة التي تُترجم أعمالها إلى لغاتٍ أخرى... هي نفسها جومانا التي تُشتم كل مساء؟

قطع شرودها صوت ناعم خلف الطاولة الخشبية.

> "هل نمتِ هناك؟"

رفعت رأسها. كان "سونغ مان"، صاحب المكتبة.

رجل مسن في أواخر الستينات، ملامحه مثل الصفحات القديمة: هادئة، عميقة، مطمئنة.

ابتسم لها، وأكمل:

"المكان مريح... أعرف ذلك. لكن الأرض ليست صديقة الظهر."

ضحكت بخفة

"أنا فقط... نسيت الوقت."

أغلق دفترًا صغيرًا بين يديه

"عندما تنسين الوقت بين الكتب، فأنتِ في المكان الصحيح."

"شكرًا لأنك تتركني أختبئ هنا أحيانًا."

"لا بأس. نحن نحمي من يحتمي بالقصص."

وقفت، أرجعت الرواية لمكانها، ثم نظرت إليه.

"تصبح على خير، سيد سونغ."

"تصبحين على دفء، يا ابنتي."

.

خرجت من المكتبة.

البرد صفَع وجهها كما لو أنه ينتقم منها على لحظات الأمان.

الهواء كان ساكنًا، الشوارع فارغة.

خطت خطوات بطيئة. وجهتها؟ لا تدري.

لكن فجأة... صوت خافت شقّ سكون الليل.

شهقة.

ثم صوت متوسل، متقطع، ينهار وسط الكلام:

"توقف... أرجوك... لا أستطيع...!"

ثم ارتطام. ثم لهاث ثقيل.

تجمدت.

نظرت نحو زقاق جانبي، بالكاد مضاء.

ثم اقتربت، خطوة بخطوة.

تجمّدت من جديد.

رجل طويل يرتدي معطفًا أسود ثقيلًا، بنطال داكن، وقبعة تخفي وجهه.

يداه في قفازات جلدية، وحذاؤه يضرب جسد رجل اخر بإيقاع مرعب.

الرجل المري ارضا يئن ويتوسل بصوت مبحوح.

شعرت بجوفها يسقط.

اركضي.

لكنها لم تفعل.

التقطت عصنًا مرميًا، خطت خطوتين، وقلبها يخونها برجفة لا تحتمل.

ثم صرخت:

"توقف!!"

صوتها خرج أضعف مما أرادت... لكنه وصل.

الرجل استدار ببطء.

عينيه، المعتمتين، التقتا بها.

لحظة واحدة...

لكنها كانت كافية لتجعل الهواء يتجمد.

____________________________♡_

الفصل الاول ✓

🎀✨ كلمة من الكاتبة ✨🎀

مرحبًا بكم يا أصدقاء القراءة 🪐🌷

لقد أنهيت للتو كتابة الفصل الأول من روايتي الأولى 🥹🩷 وما زلت أرتجف بين الحماس والخوف 🫣💃🏻

لكل من وصل إلى هنا، شكرًا لك من قلبي 🤍🍡 وجودك يعني لي الكثير ✨

هذه الرواية ليست مجرد كلمات، بل مشاعر كنت أخبئها طويلًا 🙄🪐

أكتبها لأن هناك أشياء لا يمكن قولها بصوتٍ عالٍ، لكن يمكن همسها بين السطور 🎊🩷

إذا أحببت الفصل الأول، أو حتى شعرت بشيء بسيط وأنت تقرأ 🎀😭

لا تتردد بمشاركتي شعورك، رأيك، أو حتى أكثر جزء لمسك 👽🤍

آراؤكم هي النور الذي يرشدني في هذا الطريق الطويل 🛤️✨

أراك في الفصل القادم بإذن الله 💃🏻🍡

- [اسمك أو توقيعك] 🪐🩷

الفصل الثاني

الهواء لم يكن صامتًا…

كان يراقب.

جمود جسدها، ارتعاش أطرافها، قبضتها التي تمسّكت بالغصن كأنه آخر خيط للنجاة،

كل ذلك لم يخفَ عليه.

تايهيونغ

أدار نظره عن الرجل الممدد، وتقدم بخطواتٍ هادئة نحوها.

خطوة...

ثم ثانية...

كل خطوة منه كانت تنزع من جومانا أنفاسها.

تقف هناك، غير قادرة على التقدّم أو الهرب.

ليس خوفًا فحسب… بل انبهارًا غريبًا بشيء لا تفسير له.

جسدها اختار البقاء ليتعلّم ما لم يُقال.

اقترب.

وحين صار على بُعد خطوة منها، أمال جسده قليلاً،

حتى صار وجهه أقرب إلى وجهها من أن يُهمل.

عيناها نظرتا إليه بارتباك… لم يكن وجهًا مألوفًا، ولا مريحًا،

لكنه أيضًا لم يكن وحشيًا كما توقّعت.

في الظلال… بدت ملامحه كأنها نُحتت من نَدم قديم.

ابتسم. ابتسامة خافتة

وقال بصوت لا يشبه هذه المدينة:

"ما زال بإمكانك الهرب."

الجملة أشبه بتذكرة خروج من الجحيم.

لكنها… لم تأخذها.

رمشَت، ثم قالت بتلعثمٍ كاد يخنقها:

"لـ… لستُ ذاهبة."

صوتها بالكاد خرج،

لكنه خرج.

"لن أرحل… حتى تتركه."

تايهيونغ لم يرد.

عيونه كانت تنظر إليها كما لو أنها أفسدت معادلة كان يظنها محسومة.

فتاة ترتجف… وتواجهه؟

فتاة لا تعرفه… وتدافع عن شخص لا يستحق؟

فتاة… تتكلّم بصوت منكسر، لكن بكلمات لا تنكسر؟

صمت.

ثم…

انفجار الصوت.

رصاصة اخترقت قلب الليل.

صرخة الهواء كانت أبلغ من أي صراخ.

جومانا شهقت — لا، ابتلعت شهقتها —

وانتفض جسدها في مكانه كغصن تحت صاعقة.

الغصن سقط من يدها، يضرب الأرض دون صوت.

تايهيونغ ترنّح خطوة.

يده أمسكت بكتفه…

نقطة دم ظهرت أولًا، ثم انفجرت كسكين حمراء فوق ملابسه

الطلقة أصابته.

جمود.

كأن العالم بأسره توقف ليحاول فهم ما حدث.

جومانا لم تتحرّك.

كل شيء فيها تجمّد… إلا عينيها،

تتابعان الدم، ثم وجهه، ثم كتفه، ثم تعودان إلى عينيه.

تايهيونغ رفع نظره ببطء إلى مصدر الرصاصة.

الرجل الذي ظنّته جومانا ضحية…

كان يقف الآن على قدميه، يتنفّس بجنون،

وفي يده سلاح صغير يرتجف أكثر منه.

الطلقة ردّ فعل… أو ثأرًا… أو رعبًا تكدّس فجأة.

هو… لم يبدُ عليه الألم.

عيناه تغيّرتا.

فيهما شيء لم يكن موجودًا قبل لحظة.

شيء يُشبه…

الذئب حين يُجرَح.

فجأة…

هدوء الليل تمزّق.

رجال مقنّعون خرجوا من جهتين، كأن الأرض أنجبتهم من العدم.

بوجوه مغطاة، وخطواتهم ثابتة، لا تحمل ترددًا…

كلّ شيء في حركتهم قال:

« هذا ليس تدخّلًا، هذا حكم صدر مسبقًا.»

جومانا شهقت، ارتدّت خطوة للوراء، ثم خطوة أخرى.

لكن اللاوعي قادها إلى الأمام.

دون أن تدرك، اقتربت من تايهيونغ.

رغبة بدائية، عفوية… في الاحتماء.

رغم أنه نفسه، منذ لحظات، كان يبدو هو الخطر الأكبر.

لكنّها اقتربت.

جسدها يبحث عن ظلٍّ آمن، حتى لو كان من نار.

لما شعرت بالبرد أكثر، كانت تريده جدارًا بينها وبين العالم المجهول.

هو لم ينظر إليها أولًا.

يراقب بصمت الرجال المقنّعين وهم ينقضّون على الرجل الآخر — "الضحية" المفترضة.

التقطوه كما يُلتقط شيء سقط في المكان الخطأ.

لا صراخ… لا مقاومة… فقط نظرات.

وبينما هم يجرّونه إلى الظلمة،

استوعبت.

لقد تورطت.

استدارت فجأة، غريزتها تصرخ بالانسحاب، بالهروب.

لم تمضِ خطوة حتى أمسك يدها.

يده الباردة قبضت على ذراعها فجأة،

وسحبها نحوه بقوة، حتى تلامس جسدي، وكأنها قطعة فِرائس التصقت بالمفترس.

قال بصوت منخفض، متعب من النزف… لكن حاد كالسيف:

"أعطيتكِ فرصة واحدة."

أمال رأسه قليلًا، اقترب وجهه من وجهها.

رأت عينيه عن قرب.

عينان واسعتان، بنية ، فيهما تعب، غضب… وشيء يشبه الحزن، لكنه أعمق.

"لكن الأن لن تهربي مني."

شهقت.

حاولت سحب يدها… عبثًا.

دموعها تجمّعت، لا إراديًا، وبدأت تنزلق بصمت.

هزّت رأسها نفيًا، شفتيها ترتعشان:

"أرجوك… أنا… لم أقصد… لم أكن أعلم…"

صوتها خُنق قبل أن يُكمل.

أنفاسها تتلاحق، وقلبها يكاد يفرّ من صدرها.

تايهيونغ أغلق عينيه للحظة، ثم قال بنبرة باردة، خالية من أي عاطفة:

"هيا، أمامي.

بهدوء… أو سيستعملون معكِ العنف."

سكتت.

نظرت إلى الرجال في الخلف،

نظرت إلى الشارع الفارغ،

ثم إليه.

العتمة كانت تضيق، والهواء صار كثيفًا كالغبار في حجرة خانقة.

تردّدت… لكن ساقيها خذلتاها.

خطت خطوة إلى الأمام،

تايهيونغ تبعها،

يده لا تزال تقبض على معصمها كأنها شيء ثمين… أو خطر.

ساروا بها عبر الزقاق المظلم.

خطاها ثقيلة، كما لو كانت تمشي داخل كابوس لم تصحُ منه بعد.

الرجال المقنّعون سبقوهم، أحدهم فتح باب سيارة سوداء فاخرة، زجاجها معتم، والبرد ارتدّ من سطحها كأنها قطعة من جليد مصقول.

تايهيونغ لم ينطق بكلمة.

يده لا تزال تحاصر معصمها… ليست قاسية، لكنها أيضًا لا تسمح بأي مقاومة.

جلست بصمت.

جلست… ولم تستطع حتى أن تسحب الباب.

هو من أغلقه خلفها، ثم دخل من الجهة الأخرى وجلس إلى جوارها.

السيارة بدأت تتحرك، بهدوء،  تزحف نحو مصير ما.

داخلها، الصمت كان خانقًا.

غامضًا… كثيفًا… أشبه بقطعة قماش سميكة تغطي فم الزمن.

جومانا  تنظر للأسفل، كأنها تخشى حتى النظر إليه.

أناملها تقبض على حافة تنورتها الطويلة ، تشدّ القماش بشدة لتهرب من رعشة يديها.

الدموع تنزل بلا صوت، قطرة تلو الأخرى.

النافذة المرتبّة بجانبها تعكس عينيها… حمراء، متعبة، فيها شيء منكسر.

تنفّسها متقطّع…  صدرها لا يعرف كيف يتعامل مع كل هذا الكم من الخوف، والندم، والارتباك.

"ماذا فعلت؟"

"إلى أين آخذوني؟"

"من هذا الرجل؟"

"هل سأموت الليلة؟"

كل هذه الأسئلة تدور في رأسها، تصطدم ببعضها كأمواج صغيرة في كأس ضيق.

كسر الصمت صوته.

صوته منخفضًا، أجشًا، فيه شيء مرهق… لكنه ثابت.

"هل تبكين لأنك خائفة؟ أم لأنك نادمة؟"

الجملة رنت في أذنيها مثل طرق خفيف على جدار حساس في صدرها.

لم ترد.

لا لأنها لا تعرف الجواب…

بل لأنها لو حاولت فتح فمها، ستنفجر بالبكاء، وستنهار.

استدار قليلاً نحوها، نظر إليها من زاويته — عيناها محمرتان، وجهها شاحب.

كانت صورة الهشاشة

لكن في شيء فيها… حتى في بكائها… كان عنيدًا.

رفع حاجبه بخفة وقال، بنبرة لا تحمل سخرية، بل شيء أقرب إلى الاهتمام المتحفظ:

"لو كنتِ أضعف من أن تتحملي تبعات فضولك، لما كان عليك التدخل منذ البداية."

عضّت على شفتها السفلى، وأخفت وجهها أكثر.

صوته قاسيًا… لكنه صادق.

كانت تعرف ذلك.

"لكن لم أستطع… لم أستطع أن أتركه."

كادت تقولها، بصوت مبحوح، لكنها ابتلعتها.

لحظة مرت بصمت…

ثم أضاف، بصوت أكثر هدوء، كأن حدّ السكين بدأ يبهت:

"اسمي… تايهيونغ.

… وأنتِ، من تكونين؟"

-هادئًا.

وكأنه لم يخطفها قبل دقائق فقط.

وكأن الدم الذي يسيل من كتفه لا يعني شيئًا.

… لم تحتمل أكثر.

التفتت نحوه، وعيناها ممتلئتان بالخوف والغضب:

"ما الذي تظنه نفسك؟! تخطفني من الشارع وكأنني حقيبة؟ و الان تعرف بنفسك !"

صوتها لم يكن قويًا… كان مهزوزًا، لكنه واضح.

تصرخ بصوت مكسور، من قلب يفيض.

"حتى أنك تنزف… ولا تبدو مهتمًا! هل تعرف كم هذا مرعب؟!

تتجاهل الرجل الذي كنت تضربه، تتجاهل كل شيء!"

كلماتها خرجت بسرعة، مشوشة، لكنها صادقة

"ماذا لو مت؟! هل فكرت؟!

أنت…انت حتى لا تعرف من أنا»

ثم همست، كأنها تخاطب نفسها:

"أرجوك فقط… دعني أذهب. إذا لم تقتلني أنت، فسيقتلني أبي حين أعود…"

هنا فقط… تحرّك.

"أنا لا أقتل الأبرياء."

نظرت نحوه بحذر، لا تصدّق كلماته بسهولة.

مدّ يده بهدوء، وأخرج منديلاً من جيب معطفه، ثم ناوله لها دون أن يلتقي بعينيها.

قال بصوت منخفض، أقرب للشرود:

"أنا لا أُجيد شرح ما أفعل…

ولا أطلب من أحد أن يفهمني."

نظر إلى الأمام، كأن شيئًا بعيدًا يسحبه:

"لكن هناك أشياء… لو لم تحدث اليوم، كانت ستنفجر غدًا."

ترددت، ثم أخذت المنديل من يده بأصابع مرتجفة.

مسحت دموعها،

لاحظ كيف كانت ترتجف بشدة وهي تفعل.

تنفّس ببطء… ثم قال بصوت أخف:

"لن أؤذيك."

نظرت إليه نظرة طويلة… تائهة.

وصمت.

هو أيضًا صمت للحظة، ثم أدار رأسه نحوها، وسأل:

"من تكونين".

يُحدّق فيها كما لو كانت لغزًا.

"لماذا تدخلتي في لحظة لا تخصك؟"

" الآن… لا يمكنك المغادرة بسهولة."

لم تجب.

ظلّ يحدّق بها هو الآخر، ينتظر اسمًا… تعريفًا… شيئًا.

" اسمي جومانا "

وساد صمت.

لكن هذه المرة، لم يكن مُرعبًا…

كان هشًا، ومتقلبًا،

كأن الهواء بينهما صار فجأة أكثر دفئًا… رغم الخوف.

______________♡________________

الفصل الثاني ✓

✨ إلى قرّائي الأحبّاء✨

شكرًا لأنكم عبرتم معي تفاصيل الفصل الثاني…🪐🌷

كل لحظة، كل ارتعاشة، وكل كلمة كُتبت كانت تحمل شيئًا منّي إليكم🫣🎊

قد لا يكون الطريق واضحًا بعد،

لكن بعض الطرق لا تُكشف إلا حين نضيع فيها فعلًا… 👽

ابقوا قريبين… فالقادم سيهزّ القلوب أكثر.

دمتم الضوء في ظلّ قصتي 🌷😭

باااااي🖐🏻✨

الفصل 3

الطريق المؤدي إلى القصر كان متشابكًا كأمعاء وحشٍ نائم، تخنقه أشجار صنوبر عتيقة تحجب ضوء القمر بفروعها المتشابكة. السيارة السوداء تسير وسط الظلال، محركاتها تئن أنينًا خافتًا يكاد يذوب في صوت حفيف الأوراق.

جومانا ضغطت جبينها على زجاج النافذة البارد، عيناها تتسعان كلما ابتعدوا أكثر عن أضواء المدينة، كأنها تُقاسِم الظلام قلقه.

في بجانبها تايهيونغ كتمثال من حجر. صمته أثقل من صرخة. يده اليسرى تعصر منديلًا أبيض تلطخ بلون قرمزي غامق تحت ضغط أصابعه. في انعكاس مرآة الرؤية الخلفية، التقطت جومانا نظرة سريعة إلى عينيه السوداوين... عيون بلا قاع، تُخفي فجوة مظلمة تبتلع كل ضوء.

فجأة، انبثقت من الظلام بوابات حديدية عملاقة، زخارفها المتشابكة تشبه أوراق نباتات متسلقة. انفتح الباب فورًا دون أي استفسار، ما إن تبيّنت هوية القادم. إنه الزعيم...

من أعلى برج الحراسة، ظهر ظلان أسودان كالغرابين. انفتحت البوابات بصرير معدني، أشبه بصوت فك مفصل مخلوع.

القصر بدا ككابوس جميل نبت من أحشاء الغابة. بناء ضخم يزاوج بين قسوة العصور الوسطى وأناقة العصر الحديث. واجهته من حجر رمادي بارد، تتخلله عروق زرقاء كأوردة جثة. أعمدة رخامية بيضاء تحيط بالمدخل، ونوافذ عالية مزخرفة تنفث أنوارًا صفراء خافتة.

في الحديقة الأمامية، انتصبت نوافير صامتة، وأشجار مقصوصة بعناية، ونباتات لكن الظلام أخفى جمالها عن عينَي جومانا

الرجال المسلحين في كل شبر من النطقة

عندما توقفت السيارة، ترجل تايهيونغ أولًا، ثم أشار لها بإصبعه كما لو كان يجرّها بخيط خفي. خرجت بتردد، وصعدت خلفه درجات السلم الرخامي، كل خطوة تطلق صدى كدقّات قلبها المرتبكة.

"م-ماذا تريد مني؟"

همست، وصوتها يتصاعد كدخانٍ هشّ في برد الليل.

لم يجب.

دخل أولًا، ولحقت به. وبين مشهد الرجال المسلحين المنتشرين في الممر والسكينة المصطنعة في المكان، ارتجف قلبها. أدارَت رأسها حين لاحظت خادمتين تخرجان من خلف الظلال، جميلتين كدمى ميكانيكية، لا يبدو أنهما من هنا

خاطبهما تايهيونغ بالألمانية، بصوت قاطع كالمقصلة:

"Nehmt sie mit in das Zimmer neben meinem."

(خذاها إلى الغرفة المجاورة لغرفتي.)

شعرت وكأن الأرض قد انشقت تحت قدميها عندما تقدمتا نحوها . حاولت التراجع، لكن الخادمتين بخطوات محسوبة وسريعة امسكو بها

قبضتاهما الباردتان أطبقتا على ذراعيها كأصفاد حية.

"لا! ابتعدوا!"

صرخت، دون أن تفكر، بعينين ترجوان الرحمة منه

إحداهما ضغطت على معصمها بقوة حتى كادت تسمع صوت عظامها، بينما الأخرى دفعتها من أسفل ظهرها بضربة قاسية. تركت أصابعهما خطوطًا حمراء كندوب سوط غير مرئي.

صعدوا بها سلالم تؤدي إلى الطابق الثاني، ثم دفعوها إلى داخل غرفة، وأُغلق الباب خلفها بصوت مكتوم، أخفته السجادة الثقيلة، لكن صوت القفل ظل واضحًا كطلقة مسدس.

الغرفة كعلبة مجوهرات فاخرة... فخامة بلا روح. سرير ضخم بغطاء باج ناعم، خزانة خشبية منحوتة بزخارف ضخمة، جدران مطلية بلون عاجي هادئ تتناغم مع إضاءة دافئة تنساب من ثريا زجاجية بتصميم حديث. سجادة سميكة تبتلع الخطى، وستائر مخملية تغطي النوافذ العالية... كل شيء أنيق ومُتقن، لكن صمته خانق.

قبل أن تلتقط أنفاسها، انفتح الباب بعنف. قفز قلبها، وجمدت مكانها.

دخل تايهيونغ وقد خلع سترته وقميصه، عاري الصدر امام من إختطلت المشاعرها بين الخوف و خجل من كونه عاري الصدر امامها. جسده القوي موشوم بندوب قديمة وخطوط دم جديدة. الجرح فوق كتفه الأيمن ينزف... ينبض كفم صغير يلهث.

"عالجيه."

قال، وألقى بحقيبة إسعاف عند قدميها.

"أنا... لا أعرف كيف..."

ارتجف صوتها.

اقترب ، ظلّه يبتلعها، حتى التصق ظهرها بالجدار.

"الرصاصة ما تزال في الداخل. أخرجيها... أو سأقطع يديكِ وأجعلك تفعلينها بأسنانك."

انحنى حاملا للحقيبة أخرج منها سكينًا جراحيًا وملقطًا معقمًا، ثم استدار ليكشف عن كتفه المصاب.

جلس على حافة السرير، صوته انفجر بحدة: "بسرعة."

اقتربت بخوف، يدَاها ترتعشان. أمسكها من معصمها، وسحبها نحوه ، وضع السكين بين أصابعها، وضغط على يدها بقوة.

"اقطعي..."

همس.

الشفرة غاصت في اللحم الدافئ.

تايهيونغ لم يبدي اي ردو فعل لكن عينيه ارتجفتا بالألم. الدم إفجّر دافئًا حول أصابعها.

"الآن... أخرجيها."

بعد محاولات مرتجفة، انتزعت الرصاصة بالملقط. كانت صغيرة، مشوهة... فجأة، انفجرت بالبكاء. الدموع التي كانت دومًا تخفيها عن الناس، انهمرت دون إذن امامه، بأنفاس متقطعة كأنها تنهار لأول مرة

لم يرق له بكاؤها، لكن صوته ظل ثابتًا:

"توقفي. البكاء لا ينفع"

أخذ الرصاصة منها،

"أحسنت عملا"

تأملها للحظة، ثم وضعها في جيبه.

"الآن... ضمدي الجرح."

أخذت تلفّ الشاش حول جرحه، انحنى حتى صارت شفتاه قرب أذنها:

"إذا رنّ الهاتف الأحمر... تلتقطينه قبل الرنين الثاني. إن تأخرتِ... ستندمين."

لم تفهم، فأشار إلى الهاتف الموضوع على المنضدة الصغيرة.

أنهت تضميد الجرح، فحدّق فيه، ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة.

العقدة الأخيرة كانت على شكل فيونكة صغيرة 🎀.

"هل تمزحين؟"

حين لاحظ حيرتها، هز رأسه بيأس، ثم أشار إلى باب جانبي:

"الحمّام... اغسلي يديكِ من الدم."

فتح الباب، وقبل أن يغادر، قال بصوت منخفض دون أن يلتفت:

"لا تحاولي الهرب... الثمن سيكون عائلتك."

ترك الغرفة دون أن يغلق الباب خلفه.

صمت ثم

بدأ المطر يهمي على نوافذ القصر... كأن السماء نفسها تبكي على ما حدث الليلة.

تركت جومانا نفسها تسقط على طرف السرير، قدميها لم تعودا تحملان جسدها. نظرت إلى يديها المرتجفتين، لا تزالان مغطاتين بآثار دمه... دم غريب، حار، ثقيل، كأنه يحرق شيئًا في أعماقها لم تعرف أنه موجود.

الحمام... نهضت بخطى غير مستقرة واتجهت نحوه. فتحت الباب، فإذا به حمّام فخم بأرضية من الرخام الأسود، ولمسات ذهبية على المغاسل والمرايا. رائحة الصابون الفاخر طغت على عبق الحديد العالق في أنفها.

فتحت صنبور الماء، وضعت يديها تحته، وفركت... مرة، مرتين، عشر مرات. لكن اللون الأحمر ظل عالقًا في ذاكرتها، في جلدها، بل في قلبها.

نظرت إلى نفسها في المرآة... عيناها منتفختان، زجاجيتان، ملامحها شاحبة كأنها نسخة باهتة من جومانا التي كانت قبل ساعات فقط.

حين عادت إلى الغرفة، لم تكن متأكدة إن كانت خائفة... أم فقط منهكة.

جلست على طرف السرير مجددًا، تراقب الباب الذي تركه مفتوحًا. جزء منها أراد الهروب... والجزء الآخر فقط أراد أن يختفي.

أغمضت عينيها لم تنم فورًا. ظل صوت تايهيونغ يطاردها، وحرارة دمه تسري في كفيها، والشفرة... تلك الشفرة التي غاصت في اللحم، أصبحت جزءًا من ذاكرتها.

ثم، دون أن تدري، غفت.

استيقظت على رنين حاد مزعج. الهاتف.

فتحت عينيها بتثاقل، الغرفة غارقة في ضوء رمادي ناعم يتسلل من الستائر الثقيلة.

مدّت يدها بتردد، رفعت السماعة.

"انزلي خلال خمس دقائق."

تايهيونغ.

صوته جاف، قاطع، بلا تحية، بلا توضيح... ثم أُغلق الخط.

ظلت تمسك بالهاتف للحظة، لا تعرف إن كانت تحلم، أم أن كل ما حدث ليلة البارحة لم يكن كابوسًا. لكن الألم في معصمها، والشاش الملفوف على كتفه في ذاكرتها، أكدا لها أنه لم يكن حُلمًا.

نهضت، يداها لا تزالان ثقيلتين، غسل وجهها بالماء البارد لم يبدد التوتر المتراكم في جسدها.

ارتدت ما وجدت من ملابس نظيفة تركت على الكرسي بجانب السرير ثوب بسيط، أسود، طويل الأكمام لا تعلم من وضعه، ولا متى، كل شيء هنا يحدث بلا تفسير.

خرجت من الغرفة، السجادة تخنق صوت خطواتها، والممر الطويل بدا خاليًا كما لو أن القصر نائم... أو يراقبها في صمت.

وصلت إلى الدرج، ترددت لحظة، ثم بدأت النزول.

عند أسفل السلم، كان واقفًا.

تايهيونغ.

يرتدي قميصًا أسود بأزرار مفتوحة عند العنق، بنظرة لم تُفلح في قراءتها.

حين رآها، قال بصوت منخفض حازم:

"تعالي."

ثم استدار، وسار في الممر الطويل دون أن ينتظرها.

جومانا لم تجد إلا أن تتبعه.

سارت خلفه بصمت، خطواتها تكاد لا تُسمع على أرضية السيراميك اللامع. انعطفا يمينا، جدرانه بلون داكن محايد، تتخللها إطارات خشبية مزخرفة، وبعض اللوحات القديمة التي لم تلحظ تفاصيلها الباح

تمشي خلف تايهيونغ، تائهة بين فضولها وخوفها.

توقّف أمام باب مزدوج، تنفّس ببطء، ثم مدّ يده فجأة نحو يدها.

امسك بيدها

نظرت إليه باستفهام وسحبت يدها بسىعة،لم يُعلّق، بل امسك بيدها مجددا ثم فتح الباب.

ما إن دخلت حتى شعرت بنظرات تخترقها.

أثاث كلاسيكي بلون كريمي، وسجادة فارسية تغمر الأرضية، أريكتان متقابلتان، ومنضدة منخفضة يتصاعد منها بخار فنجان قهوة لا يزال ساخنًا.

هناك، ينتظرون.

أربعة أشخاص.

امرأة تبدو في منتصف الأربعينات، تجلس باستقامة ساحرة، ترتدي معطفًا عاجيًا بأزرار ذهبية، وشعرها مربوط للخلف بعناية. ملامحها تشي بذوق رفيع وثقة لا تُهدد.

إلى جانبها، رجل ضخم الجثة، يرتدي بذلة داكنة، لكن ما يرعب أكثر من مظهره هو عينيه... ثاقبتان، جامدتان، وكأنهما تصفّحان داخلها بلا إذن.

وفي الزاوية، جلس شاب يعبث بهاتفه، ساقاه متشابكتان، جسده مسترخٍ لكن ملامحه لا تطمئن. حتى سكونه يوحي بالخطر.

عند النافذة وقفت فتاة بشعر أسود طويل منسدل على ظهرها، ترتدي فستانًا كلاسيكيًا بسيطًا، يلتف حول خصرها بنعومة. ملامحها هادئة...

ترددت جومانا للحظة، تشبثت بذراع تايهيونغ دون وعي. شيء في هذه اللحظة جعلها تشعر بأنها عارية من كل درع.

ارتبكت أكثر حين أحسّت بتحرك يده.

تايهيونغ حرّر يدها من قبضتها... ثم أنزل يده ببطء، ووضعها على خصرها، حركة بدت طبيعية، لكنها مشحونة بنسبة لكليهما.

نظرت إليه بدهشة، احس هو برعشتها على طول عمودها الفقري ، قبل أن تنطق بكلمة، قال هو بصوته الهادئ ا

"هذه جومانا... حبيبتي وزوجتي المستقبلية."

الهواء تجمد في رئتيها.

فتحت فمها لتعترض، لكن الكلمات خانتها. عيناها اتسعتا، تنقلت بين وجوه الحاضرين في ذهول، يده لا تزال تستقر بثبات على خصرها، كأنها توقيع رسمي لا مجال لإنكاره.

المرأة ابتسمت بخفة، ابتسامة راقية تخفي أكثر مما تُظهر.

الرجل إلى جوارها لم ينبس بكلمة، لكنه اكتفى بنظرة طويلة، فاحصة.

الشاب عند الطاولة ضحك بخفة.

أما الفتاة عند النافذة... لم تبتسم، لم تعلّق، فقط... حدّقت.

جومانا؟

كانت لا تزال تحاول التقاط أنفاسها.

لم تكن تعرف من هم.

او لماذا قال ما قاله.

او ماذا سيأتي بعد تلك الجملة التي مزّقت صمت الغرفة مثل شظايا زجاج.

لم يمنحها فرصة لتلتقط أنفاسها أو لتستوعب وقع كلماته. سحبها بخفة من خصرها نحو الأريكة المقابلة للجميع، وجلس أولًا، ثم أجلسها إلى جواره دون أن يستشيرها أو حتى ينظر إليها.

جلستها متصلبة، وظهرها مستقيم كمن يستعد للإعدام

أرادت أن تتكلم أن تقول

"أنا لست... حبيبته انا لا أعرفه "

"هذا ليس حقيقيًا..."

لكن الحروف علقت في حنجرتها مثل شوكة، حرارة جلده قربها أربكتها أكثر.

ثم... قُطع الصمت.

"ألم تكونا تتواعدان؟"

صوت رخيم... لكنه يقطر سخرية.

التفتت جومانا بسرعة، فوجدت أن المتحدث هو الشاب الذي كان يعبث بهاتفه. رفع حاجبه وأشار بكسل نحو الفتاة ذات الشعر الأسود الطويل

"أليس هذا ما قلتَه منذ عام؟ أو ربما أكثر؟"

الفتاة لم تتحرك، لم تُغير حتى تعبير وجهها، فقط أدارت رأسها قليلًا نحو تايهيونغ بنظرة لا تُقرأ، دون أن تقول شيئًا.

بهدوء... ثم ببط، نظرة في عينيه أشبه بلهب غير مرئي نحو شقيقه الأكبر

"سوهون."

قال اسمه فقط... لا أكثر.

سوهون، الذي كان يبتسم بلا مبالاة، قطب حاجبيه ببطء، ثم رمش بنظرة جانبية وكأنّ شيئًا ما في الجو تغيّر. لم يُجب، فقط انسحب إلى الخلف في جلسته قليلًا، كمن يتراجع خطوة للوراء من ساحة خطر.

تايهيونغ اعتدل، ونظر إلى جومانا نظرة جانبية سريعة، قبل أن يرفع صوته قليلًا ليس بصراخ، بل بوضوحٍ حاسم:

"أقدّم لكِ العائلة، جومانا."

وأشار أولًا إلى الرجل الثقيل الجالس بجانب المرأة:

"هذا والدي... كيم جي وون."

الرجل اكتفى بإيماءة صغيرة. لم يبتسم، لم يتحرك. عيناه فقط تحركتا نحوها، تنظران كأنهما تقيسان وزنها لا قيمتها.

ثم أشار إلى المرأة الأنيقة:

"وهذه والدتي، كيم يو سون."

يو سون ابتسمت... بخفة عطرٍ سام. وقالت بصوت ناعم:

"تشرفت، عزيزتي."

جومانا لم ترد. لم تجد صوتها أصلاً.

ثم تحرّك إصبع تايهيونغ مشيرًا إلى الشاب الذي تفوّه بالسخرية:

"شقيقي الأكبر، كيم سوهون."

سوهون لوّح بإصبعه لها، يسخر حتى من التحية، ثم قال بابتسامة جانبية:

"أهلًا، زوجة اخي المستقبلية... المفاجئة."

تايهيونغ تجاهله.

ثم التفت نحو الفتاة التي لا تزال واقفة بجانب النافذة، هادئة كلوحة من جليد.

"وهذه ابنة عمي... ريتا."

ريتا فقط أومأت برأسها ببطء. لكن عينيها، لم تتركا جومانا.

جومانا شعرت بأن المكان أضيق مما هو عليه، والهواء أثقل، كل نظرة موجهة نحوها كانت تزن ذنبًا لم ترتكبه.

لماذا قدمها كزوجته المستقبلية؟ لماذا لم ينفِ كلام سوهون؟ لماذا تبدو ريتا وكأنها تعرف أكثر مما تقول؟

وما الذي يريده منها حقًا؟

قال تايهيونغ هذه المرة موجهًا حديقه للجميع:

"هي الآن جزء من هذه العائلة. فلا أحد يتجاوز ذلك."

ساد الصمت مجددًا بعد كلمات تايهيونغ الأخيرة.

لكن تلك الجملة التي نطقها بثقة لم تمر كما أراد.

والده، كيم جي وون، تنفّس ببطء، ثم قال بصوت خفيض، عميق، كمن يُلقي أول حجر في بركة هادئة:

"منذ متى بدأت تُلقي القرارات على الطاولة وكأنك رأس العائلة؟"

نظرة تايهيونغ نحوه لم ترفّ.

"منذ أن مات ضمير العائلة."

ضحكت والدته بخفّة مصطنعة، تحاول كسر التوتر... لكن جي وون لم يتحرك. تابع بصوت لا يزال هادئًا، لكن فيه نصل خفي:

"امرأة من الشارع، لا نعرف من أين أتت ولا ما خلفها... تريد أن تدخلها إلى بيتنا وتقدّمها للعائلة؟ كزوجة؟"

كل كلمة كخنجر يغرسه دون أن يرمش.

جومانا شحب وجهها، وجفّ ريقها، لكنها لم تستطع النطق... فقط نظرت إلى الأرض، كأنها تُفتّش عن حفرة لتختبئ فيها.

تايهيونغ اعتدل في جلسته. صوته هذه المرة جاء ببرود جليدي:

"انتبه لكلماتك يا أبي..."

جي وون انفجر واقفًا فجأة، يداه ترتجفان رغم صلابته:

"أنا لم أربّ أبناءً يعصونني جهارًا في بيتي!"

"لم تربّنا أصلاً!"

صرخ تايهيونغ، لأول مرة، نبرة غاضبة هزّت جدران الغرفة

يو سون، والدته وقفت بخفة، وضعت يدها على ذراع زوجها تُحاول تهدئته، لكن نظرته لم تفارق ابنه.

"ستدمّر كل شيء كما فعل أخوك الأصغر، أليس كذلك؟ أنت تسير على نفس الطريق، وستجلب العار قبل أن ترحل!"

ساد صمت بارد... تراجع فيه والده خطوة للخلف.

نظر إلى زوجته، ثم إلى تايهيونغ وجومانا، بملامح متصلبة خالية من أي عاطفة.

"انتهى حديثي هنا."

ثم التفت إلى يو سون وقال بنبرة آمرة:

"هيا بنا."

وغادرا الغرفة، خطواتهما ثقيلة تُخفي خلفها كمينًا من الأسرار

سوهون وقف، تمطّى بكسل، ثم مرّ بجانب تايهيونغ وهمس له ببرود:

"دائمًا تختار أسوأ توقيت لتكون دراميًا."

ثم نظر إلى جومانا نظرة طويلة مريبة، ابتسم باستهزاء، ولوّح لها بأطراف أصابعه:

"سعدتُ بلقائكِ، زوجة اخي المستقبلية"

وغادر بدوره.

بقيا فقط... تايهيونغ، جومانا، وريتا.

وهنا... تحركت ريتا.

اقتربت ببطء. خطواتها كانت ناعمة، لكن فيها عناد، كأن كل خطوة كانت تحتها نار.

نظرت إلى جومانا مباشرة، ثم نقلت عينيها إلى تايهيونغ.

"هل تمزح؟"

قالتها بصوت موميت

تايهيونغ لم يجب.

ريتا تقدّمت أكثر، وقفت أمامه، رفعت يدها ولمسته بخفة على وجهه.

بقت جومانا تراقب دون نطق كلمة واحدة

ريتا لم تتوقف.

بلا كلمة، وبحركة مفاجئة... اقتربت من تايهيونغ، وطبعت قبلة سريعة على فمه أمام جومانا.

كانت تحديًا

يد تايهيونغ ارتفعت في لحظة، دفعها بقوة، لا عنف... بل عنفوان.

"لا تلعبي هذه اللعبة معي يا ريتا."

ارتدّت إلى الخلف خطوتين، حاجباها ارتفعا بدهشة، لم تتوقع الرفض.

"كنت تحبني."

"خطأ."

قالها بصوت هادئ جدًا، لكنه قاطع.

"أنا لا أحب أحدًا."

ثم نظر إلى جومانا، لأول مرة، طويلًا.

"وهذا يشملها أيضًا."

ريتا ضحكت... ضحكة عالية خالية من أي فرح، ثم تراجعت وهي تقول:

"ستندم. كلاكما."

وغادرت.

جومانا...

بقيت في مكانها، ساكنة. شفتاها مرتجفتان، وعيناها لا تعرفان أين تنظران. كل شيء داخلها اختلط.

كلمات، نظرات، صفعة غير مباشرة على قلبها.

تايهيونغ جلس من جديد، أنفاسه ثقيلة. وضع كفيه على وجهه، وأخذ نفسًا عميقًا.

دون أن يلتفت، قال:

"الآن، أنتِ تعلمين من أكون... ومن يكونون."

ثم نظر إليها.

"هل ستبقين؟"

لم تجب فورًا. كانت تحدّق به، نظراتها تمزج بين الخذلان والذهول.

ثم، حين فتحت فمها أخيرًا، صوتها منخفضًا... لكنه مسموم.

"هل ما حدث لليلة البارحة لا يكفيك؟ تريد أن تتأكد إن كنت سأبقى... بعد أن سرقتني من حياتي، ووضعتني وسط كذبة أمام عائلتك؟"

نظرته ثابتة، كأنها لم تُصبه كلماتها.

"لأجل من؟ لأجل نفسك؟ لأجل كبريائك؟ أم لتثبت لعائلتك أنك ما زلت تملك شيئًا حتى وأنت تنزف؟"

اقتربت منه، عينها ترتجف بالغضب:

"كنت أرتجف أمس من فكرة أنك ستقتلني، وها أنا اليوم أرتجف من فكرة أنني أصبحت دمية بين يديك!"

قال ببرود:

"لم أؤذكِ."

انفجرت:

"كفّ عن الكذب! لم تؤذني؟! أخذتني من الشارع كأنني غرض، أجبرتني أن أغرز سكينًا في لحمك، هددتني إن لم أُخرج الرصاصة... ثم جرّدتني من هويتي وقدّمتني كحبيبتك!"

شهقت تتنفس بصعوبة:

"أنت لم تؤذني؟! لقد كسرت شيئًا في داخلي ولن تستطيع ولن أستطيع إصلاحه."

ضربت صدرها بقبضتها:

"أنا لا أنتمي لهذا المكان، لا أنتمي لك، ولا لعائلتك التي تنظر إليّ وكأنني وصمة عار"

قال بنبرة خافتة، مميتة:

"أنتِ الآن جزء من حياتي، سواء شئتِ أم لا."

ضحكت بسخرية حادّة، تكاد تبكي:

"وهل هذا تهديد جديد؟ كم واحد بقي في قائمتك؟! ستؤذيني؟ ستقتل عائلتي؟ ستغلق الباب عليّ وتحبسني؟ هل ستضربني؟ "

لكنه انفجر وقف و تقدم لها حتى اصبح يفصل بينهم شبر

"وهل تظنين أني أردت هذا؟!"

تجمّدت.

تابع، صوته يرتفع:

"أنتِ تتصرفين وكأنك وحدك الضحية... وكأن حياتي وردية وأنا أجبرك على تمثيلية! أنظري إليّ، جرح فوق كتفي ، خيانة تملأ الجدران... وأنا أضطر لتقديم شخص غريب أمام من يتربص لي بالخطأ."

أشار إليها بعنف، لكن دون أن يلمسها:

"كنتِ في المكان الخطأ، في الوقت الخطأ. نعم... لكنك الآن هنا، ووجودك لم يعد مجرد صدفة. هذه الحرب... تبتلعنا معًا."

صرخت:

"لا تجرّني إلى جحيمك! لست مخلوقة لأكون درعك البشري! لست بطلة في رواية عن رجل محطم وفتاة تنقذه! أنا لا أنقذك، ولن أحبك، ولن أغفر لك!"

حدّق بها، عيناه تضيقان كأنها تضع أصبعها على جرح لا يريد لأحد لمسه.

"لا أطلب حبكِ."

ثم أكمل، بصوت أشبه بالهمس... كأن كل ما فيه قد خمد:

"أنا لا أؤمن به أصلًا."

صمت، جومانا نظرت إليه طويلاً، ترى ظلًّا لرجل كان يمكن أن يكون إنسانًا... قبل أن يسحقه شيء ما.

قالت بمرارة:

"وهذه هي مشكلتك."

"أنت لا تؤمن بشيء... لا حب، لا أمان، لا أحد. حتى نفسك لا تصدقها."

"ولهذا السبب... ستدمّر كل من يقترب منك."

لم يرد، فقط أدخل يديه في جيبيه، وأدار وجهه نحو النافذة.

قالت بصوت حادّ:

" لست مشروعك التالي."

"أنا لست تجربة. ولا واجهة. ولا وسيلة ضغط على والدك."

استدار إليها ، وجهه خالٍ من الانفعال، لكن صوته... كان متعبًا:

"لن أكررها، جومانا... لا مفرّ. سواء بقيتِ هنا برغبتك، أو بقيتِ مجبرة، لن يُغير هذا شيئًا."

اقتربت منه حتى كادت تلمسه، وهمست:

"لن أبقى."

"لكنك ستتمنى لو بقيت."

استدارت نحو الباب ثم اتجهت نحوه... فتحت المقبض، لكنه أغلقه بيده قبل أن تخطو.

يده فوق يدها

عيونه كانت متوحشة هذه المرة، صوته هادئ

سحبها للخلف

"إن خرجتِ الآن، لن تعودي."

نظرت إليه... وابتسمت، بعين دامعة:

"إذن احبسني."

"اجعلني حبيبتك بالقوة، وزوجتك المزيّفة، وسكينك في الظهر."

"لكن تذكّر، تايهيونغ..."

تقدّمت منه بخطوة، كأنها تخترق ناره، وهمست:

"احرقني... لكن لا تكذب عليّ."

رنّ هاتف تايهيونغ فجأة.

أخرجه من جيبه، نظر إلى الشاشة للحظات، ثم أجاب بنبرة مختنقة:

"ادخله."

أغلق الهاتف... وبعد ثوانٍ، فُتح الباب بهدوء.

جمُدت جومانا في مكانها.

رجلاها لم تتحركا، وكل ما في داخلها قال إنها تحلم...

الرجل الذي دخل كان والدها.

وقف هناك، على عتبة الغرفة، ينظر مباشرة إلى تايهيونغ. لم يلتفت إليها، لم ينبس بكلمة.

تايهيونغ تقدّم خطوتين نحوه، لم يكن الغضب في عينيه، بل شيء أهدأ... وأخطر.

"أنت تأخرت."

ردّ والدها بصوت ميت:

"كنت بحاجة لتفسير الأمور في البيت."

"هل أرسلت الرسالة؟"

"نعم. كما طلبت."

تايهيونغ أومأ برأسه، ثم قال

"جيد. ستتبع التعليمات، خطوة بخطوة. لا اتصال معها، لا زيارات، لا توضيحات. لقد انتهى دورك كأب."

اتسعت عيناها، ، ملامحها تكاد لا تستوعب ما تسمع.

لكن والدها أجاب ببساطة:

"أنا تحت أمرك، سيدي."

حدّق فيه للحظة، ثم أشار له بيده.

عندها فقط، انحنى الرجل أمامه ببطء، بانكسارٍ مخيف.

جومانا شهقت، خطواتها تزعزعت وهي تهمس:

"أبي...؟"

اقتربت بخطوات مترددة، ثم اندفعت ناحيته فجأة، تحت وقع الجنون والخوف.

ارتمت بين ذراعيه، تمسكه بقوة، تتشبث به كأنه خشبة النجاة الأخيرة.

"أبي... أبي أنا خائفة، أرجوك دعنا نغادر... أرجوك خذني من هنا، خذني!"

انهارت بالبكاء على صدره، جسدها يرتجف من كل شيء.

بعد ثوانٍ قليلة فقط... فكّ والدها ذراعيه عنها.

أبعدها عنه ببطء.

"لا."

كلمة واحدة فقط. مثل السيف.

"لماذا؟!"

صاحت، لم تعد ترى جيدًا من الدموع.

"أبي! أنا ابنتك! كيف تفعل هذا؟"

لكنه تخطّاها... دون أن ينظر حتى في وجهها.

"جومانا، لا تعودي إلى المنزل. لقد تسببتِ بما يكفي من الحرج. والباب لن يُفتح لكِ من جديد."

"حرج؟! هل بيتي أصبح مكانًا للصفقات؟! هل بعتني له؟!"

نظرت نحو تايهيونغ، ثم عادت إليه:

"هل دفع لك؟!"

الأب لم يجب، فقط استدار، وبصوت خافت قال:

"لا مكان لكِ بيننا بعد الآن."

وغادر.

باب الغرفة أُغلق خلفه.

كأن العالم طُرد معه.

جومانا... سقطت على الأرض.

"أنا لم أطلب شيئًا... لم أطلب شيئًا من أحد..."

قالتها بين شهقاتها.

تايهيونغ ظلّ واقفًا، ينظر إليها. عيناه تتقلّبان بين قسوةٍ يعرفها... وضعفٍ لا يعترف به.

اقترب خطوة.

لكنها صرخت فيه:

"لا تقترب!"

رفعت يدها أمامه

"أنت لست إلا لعنة! لقد أخذت كل شيء... حتى من لم يكن يعطيني شيئًا."

"سأكرهك، تايهيونغ. سأكرهك بكل ما بقي فيّ من رمق."

جاثية على الأرض، شهقاتها تتقاطع مع صمت الغرفة، وعيناها لا ترَيان سوى خذلان العالم.

تايهيونغ بقي مكانه لحظة، ثم تحرك نحوها.

ركع بجانبها، مدّ ذراعيه ببطء:

"انهضي، ستؤذين نفسك."

لكنها أبعدت يده بقوة، دافعة كتفه بكفها المرتجف:

"لا تلمسني!"

ظلّ ثابتًا، لم يغضب... فقط قال بنبرة منخفضة:

"جومانا... أنا لا أريد أن أؤذيك."

>ط "لكنك تفعل."

صوتها خرج كهمس... مجروح.

"أذيتني أكثر مما فعل أي أحد آخر."

حاول مجددًا أن يساعدها على الوقوف، فوضع ذراعه خلف ظهرها برفق، لكنها صرخت، ثم دفعته بعنف أكبر، حتى كادت تقع ثانية:

"قلت لك لا تلمسني! أنت لا تفهم... لن تفهم أبدًا."

وقفت بصعوبة، خطواتها متعثرة، لكنها اتجهت نحو الباب دون أن تلتفت.

تايهيونغ تبعها

"توقفي. لا يمكنك الخروج بهذا الشكل."

لم تسمعه.

فتحت باب الغرفة بقوة، خرجت إلى الردهة الطويلة، ثم نزلت الدرج الكبير، واندفعت نحو باب القصر الرئيسي.

يديها المرتجفتين أمسكتا بمقبض الباب، فتحته...

هبّت رياح الباردة على وجهها.

ركضت خارجا بلا وعي، تفرّ من كل شيء.

لكن...

في لمح البصر، تحرك رجال الحراسة المتواجدون في محيط القصر.

بذلات سوداء، عيون يقظة، وسلاح مرفوع.

رجال اندفعوا من الظلال، طوقوا المكان، وصوبوا أسلحتهم نحوها.

وقفت في منتصف الباحة، تنفّسها متقطع، وعيناها تتسعان برعب خالص.

الصراخ مات في حلقها.

كل جزء فيها كان يرتجف.

ثم...

صوت اخترق الظلام والهواء معًا، كالرعد:

"اخفضوا الأسلحة."

تايهيونغ.

كان واقفًا على عتبة القصر، عينيه تشعّان بغضبٍ خالص.

كررها بنبرة آمرة:

" قلت: اخفضوها. فورًا."

تردّد الرجال لحظة... ثم امتثلوا.

الأسلحة عادت إلى مكانها، والتوتر انخفض... لكنه لم يختفِ.

لا تزال في مكانها، لا تتنفس تقريبًا، تنظر إليهم بعينين غارقتين في الخوف والخذلان.

اقترب منها تايهيونغ ببطء، يده ممدودة نحوها

"تعالي. لا أحد سيؤذيك. أقسم."

تراجعت خطوة.

"كلكم تؤذون. كل شيء هنا... مؤذٍ."

"حتى الهواء... أصبح عدوًا."

ثم استدارت... وانهارت جالسة على العشب، عيناها تحدّقان في لا شيء.

تايهيونغ اقترب أكثر، جلس أمامها بصمت.

لم يُجبرها على الحديث.

لم يُغلق المسافة بينهما.

فقط بقي هناك... كشاهد على ما فعله بها العالم، وما فعله بها هو.

أمسكت يديه، الدموع في طرف عينيها، صوتها بالكاد يخرج:

"دعني أذهب... لن تراني مرة أخرى في حياتك... فقط دعني أذهب..."

سالت دموعها، تنساب ببطء فوق وجنتيها

"كنت خائفة من خسارة عائلتي... وخسرتهم. لم يتبقَّ لي شيء أفقده... لكن لا أستطيع البقاء هنا... لا أستطيع."

يدها ترتجف بين يديه، كلماتها مقطّعة، تخرج من بين شهقاتها

شفتاها المرتجفتان جعلت كلمتها الأخيرة تبدو كنداءٍ مكسور.

تايهيونغ... الذي اعتاد على الصمت، على البرود، على دفن كل ما يمكن أن يُشعره بالضعف لم يستطع هذه المرة.

لم يسأل نفسه لماذا.

فقط مدّ ذراعيه، وضمها إلى صدره.

احتضنها بقوة، يده تربت على ظهرها بخفة، لم يعرف ما إذا كانت المواساة لها... أم لنفسه.

قال بصوت منخفض، متردد، يحاول التظاهر بالسيطرة:

"حسناً... توقفي عن البكاء."

لم تتوقف.

شهقات خرجت منها رغماً عنها، فشدد ذراعيه حولها أكثر، كأن احتواءه لها هو آخر ما يملكه الآن.

"أعلم أنك تكره هذا المكان... وتكرهينني أنا أيضاً."

صمته كط ثقيلاً، ثم تابع، صوته خافت كهمسة:

"لكنكِ على الأقل ما زلتِ حية."

ابتعدت قليلاً عنه، لم تترك حضنه تمامًا، عيناها تلمعان، تحدق به بشيء أقرب إلى الانكسار.

"هل هذا يكفي؟ الحياة دون كرامة؟ دون أمان؟"

أجابها بعد لحظة، وهو ينظر مباشرة في عينيها:

"لا... لكنه كل ما أستطيع أن أقدمه لك الآن."

ثم، ببطء، رفع يده، ومسح دموعها بإبهامه.

"لا أطلب منك البقاء... ولا أطلب منك المسامحة."

"لكن إن رحلتِ الليلة... لن أضمن أن أراكِ مرة أخرى."

عيناها اتسعتا، ارتعشت شفتاها

تابع هو، هامسًا

"هناك أشياء... عندما نفقدها، لا تعود. أشياء لا نعرف قيمتها إلا حين نمدّ أيدينا ولا نجدها."

ثم ترك ذراعيه تنخفض ببطء، يديه انسحبتا منها

"اختاري، جومانا. الباب هناك. و أنا... هنا."

ثم استدار عنها وابتعد خطوة قدميه... لم تقوَ على الابتعاد أكثر.

صوت الباب وهو يُفتح قطع الصمت.

استدار تايهيونغ بب وعيناه تلقفت جسد جومانا...

خرجت

تسير بخطوات ثابتة، تتّجه نحو الغابة المظلمة كمن اختار أن يضيع عمداً.

لم تنظر خلفها، لم تتوقف، فقط اختفت بين الأشجار.

تايهيونغ أشار بصمت إلى أحد رجاله الواقفين قرب المدخل:

"اتبعها. لا تلمسها. فقط تأكّد أنها لا تؤذي نفسها."

أومأ الرجل فوراً، واندفع خلفها في صمت.

مرّت الساعات كأنها عقوبة.

تايهيونغ جلس في غرفته، ضوء خافت يغسل الجدران، والنافذة الزجاجية تقابله كمرآة تعكس ظله... والغابة.

عيناه لم تغادرا الأشجار. هناك، خلف ذلك السواد، تختبئ الإجابة التي لا يريد أن يسمعها.

ثم

صوت طرقات سريعة على الباب.

"ادخل."

دلف مساعده، وجهه مشدود، نظراته قلقة:

"سيدي... وجدنا الرجل الذي أرسلته خلف الآنسة."

"أين هو؟"

" وجد مغشيّ عليه. مصاب بجروح عميقة... يبدو أن حيوانًا مفترسًا هاجمه. حالته خطيرة هو في طريقه للمشفى."

تبدّل الهواء في الغرفة. ذاك البرود المتجذّر في ملامح تايهيونغ انسحب فجأة، كأن أحدهم صفعه من الداخل.

"جومانا؟"

سأل، صوته منخفض... خائفًا.

هزّ المساعد رأسه:

"لا أخبار عنها."

لعن تحت أنفاسه، وقام واقفًا بقوة، التقط معطفه، ثم سلاحه الموضوع فوق الطاولة.

"ابقَ هنا. إذا وصلك شيء عنها، اتصل بي فورًا ارسل الباقي الرجال للبحث عنها."

"أمرك، سيدي."

انحنى المساعد، تايهيونغ لم يره. كان قد خرج بالفعل، خطواته سريعة، مشيته مشحونة، كل خلية في جسده تلعن اللحظة التي سمح لها فيها بالذهاب.

تجاهل نظرات الحرس، اجتاز البوابة، ثم وقف أمام الغابة.

الظلام أمامه بدا أعمق من العادة. البرد... لم يكن من الطقس، بل من قلبه.

أحكم يده على سلاحه، وتقدّم.

"أقسم إن وجدتكِ بخير، لن أسمح لكِ بالهرب مجددًا..."

همسها لنفسه، كمن يقطع وعدًا لا عودة فيه.

وغاص في الغابة، يختفي كما اختفت هي... كأن مصيرهما مكتوب في الأشجار.

_____________♡________________________

الفصل الثالث ✓

لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon

تحميل PDF للرواية
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon