NovelToon NovelToon

The White Conspiracyالمؤامرة البيضاء

الفصل الأول بعنوان حياتي و بيكشون

اسمي ستيلا.

وأحيانًا أشعر أن اسمي لا يعني شيئًا هنا.

عندما أقول “ستيلا” لا أحد يلتفت. ربما لأن في جزيرة بيكشون، الناس تعوّدوا ألا ينظروا في وجوه بعضهم طويلًا. خشية أن يلتفت إليهم الظلّ المظلم الذي يحكم هذه الأرض.

ولدت قبل عشرين عامًا من أبوين لم أعرف الحبّ على وجه الأرض إلا بين ذراعيهما. أبي كان إسبانيًا، يحب الموسيقى والضحك والنبيذ. أمي ألمانية، صارمة لكن قلبها طري. عشت سنواتي الثماني الأولى في بيت صغير قرب مدريد. لا أتذكر تفاصيل كثيرة، لكنّي أتذكر تلك الليلة… الليلة التي اختفى فيها كل شيء.

كنا في طريق العودة من زيارة جدتي حين وقع الحادث. ارتطم الزجاج بوجهي، وامتلأت أذناي بصوت لا يزال يلاحقني حتى الآن. صراخ… ثم صمت.

حين فتحت عيني، لم أجد أبي ولا أمي. فقط رجال غرباء يتحدثون بالإسبانية الباردة نفسها التي يستخدمها الأطباء حين يخبرون طفلة أنها أصبحت يتيمة.

بعد أسابيع قليلة، أخذوني إلى جزيرة بيكشون.

أذكر أني نظرت من نافذة المركب، ورأيت الجزيرة تغرق في الضباب. بدا الأمر وكأننا نقترب من فم وحش. كان البحر هادئًا على نحو يبعث على الريبة، وكأنّه يتهيأ للعاصفة.

بيكشون… الكلمة نفسها صارت تحمل رائحة الحديد الصدئ والدماء.

عشت مع عمتي في بيت قديم قرب الساحل. كانت تحاول جاهدة أن تجعلني أشعر بالأمان، لكنها لم تكن قادرة على إخفاء خوفها. كانت ترتجف كلما دقّ أحد الباب في الليل.

الناس هنا يتحدثون عن رجل اسمه يوهان بيكشون.

الزعيم.

الأسطورة المرعبة التي تحكم الجزيرة منذ أن كانوا صغارًا. يقال إنه بارد، لا يبتسم إلا حين يرى الدماء. لا يؤمن بشيء اسمه الرحمة. القتل عنده ليس وسيلة، بل هواية. والسلطة ليست شرفًا، بل حقًا انتزعه بالقوة.

كنت أسمع الهمسات عن ليالٍ يختفي فيها الناس فلا يعودون أبدًا. عن قوانين لا يعرفها أحد على وجه اليقين لكنها تنتهي دائمًا بجثة. وعن جزر أخرى في البحر، تراقب بيكشون وتنتظر اللحظة المناسبة للانقضاض.

أقربها إلينا هي جزيرة تتوبويا.

جزيرة محكومة برجل آخر: إيرلن تتوبويا. يقال إنه لا يقل قسوة عن يوهان، لكنه أذكى منه. صراعهما قديم، لا يعرف أحد كيف بدأ. كل ما أعرفه أن سكاننا يدفعون الثمن كل مرة يقرر أحدهما إرسال تحذير للآخر.

مرت السنوات، وكبرتُ وأنا أشاهد الخوف يزحف على الوجوه. تعلمت ألا أسأل كثيرًا. ألا أنظر طويلًا في عيون الغرباء. وألا أقترب من مبنى القيادة حيث يقال إن يوهان يجلس، يراقب كل شيء.

اليوم، بعد اثني عشر عامًا في هذه الجزيرة، لم أعد تلك الطفلة التي وصلت على متن مركب صدئ.

أنا ستيلا. طالبة طب عام في الجامعة الوحيدة هنا.

لكن أحيانًا، وسط المحاضرات والكتب والآمال الصغيرة، أتذكر أني أعيش في مكان تحكمه شريعة الدم.

أحيانًا، أستيقظ في الليل وأشعر أن أنفاسه تملأ المكان، رغم أني لم أره قط.

يوهان بيكشون.

الرجل الذي يحكم حياتي دون أن يلمسها.

حتى الآن……

استيقظت على صوت خافت يهزّني من كتفيّ.

– “ستيلا، هيا استيقظي… اذهبي إلى الغابة قبل أن تشتدّ الشمس.”

كان صوت عمّتي ليلى متعبًا، كما لو أنه يحمل عمر الجزيرة كله فوق ظهره.

فتحت عيني بصعوبة. شعرت بالبرد يتسلّل من شقوق الجدار، والضوء الخافت للنهار بدأ يتسلّل من نافذتي الصغيرة.

– “الماء قارب على النفاد، ونحتاج حطبًا أيضًا.”

أومأتُ دون أن أجادل. في بيكشون، لا تملكين رفاهية التذمّر.

ارتديت معطفي الصوفي، ولففت شعري البني الطويل على عجل. أمسكت بالسلة والدلو، ثم خرجت.

الطريق نحو الغابة كان صامتًا، لكن ليس ساكنًا. الأشجار الطويلة تنتصب كجنود متجمدين في حالة تأهّب دائم. كل شيء هنا يراقبك. حتى الأرض. حتى الهواء.

بدأت بجمع الحطب أولًا. كانت الأغصان رطبة بعض الشيء، لكنني اعتدت على التمييز بين ما يصلح للاشتعال وما لا يُرجى منه.

بعد أن امتلأت السلة تقريبًا، نظرت باتجاه الشرق.

البحيرة تبعد حوالي عشرة كيلومترات، طريق طويل، لكن الماء هناك أنقى من الذي قرب الميناء.

كنت أغني. لا أدري لمَ، لكن شيئًا ما في الغابة كان يدفعني للغناء. ربما لأن لا أحد يسمعني. أو هكذا ظننت.

كانت الأغنية ألمانية، لحن علّمتني إياه أمي. صوتي انساب بخفة بين الأشجار، وكأنني أحاول تذكير نفسي أنني لا زلت حيّة، رغم كل شيء.

لكنني لم أكن وحدي.

في الطرف الآخر من الغابة، كان يوهان بيكشون هناك.

زعيم الجزيرة. الوحش المتأنق. الرجل الذي تتبع خطواته رائحة الموت.

كان يصطاد.

هو لا يصطاد من أجل الطعام، بل من أجل المتعة. يقول البعض إنه يفضّل قتل الحيوانات بيده، لا بالبنادق. وإنه يحتفظ بجماجمها في غرفة مظلمة خلف مكتبه.

كان قد انتهى لتوّه من قتل ثلاثة من الغزلان الصغيرة. واحدة منها كانت حامل. لكنه لم يكترث.

“الضعف لا يستحق الحياة” – جملته المفضلة.

في طريق العودة، سمع الصوت.

فتاة… تغني؟

زمّ شفتيه.

من يجرؤ على الغناء في أرضه؟ في مملكته التي تحكمها الخوف؟

اقترب بخطى صامتة، خفيفة، كما يفعل حين ينقضّ على فرائسه.

وقف خلف شجرة ضخمة، ونظر.

كانت فتاة في العشرين تقريبًا، شعرها ينسدل على ظهرها بينما هي تنحني لتملأ دلواً من الماء.

كانت تغني… وتبتسم!

عقد حاجبيه. كيف تبتسم فتاة في هذه الجزيرة؟

لكنه لم يخرج. اكتفى بالمراقبة.

كانت ملامحها تحمل شيئًا غريبًا. جمال لم يكن من هنا. بدا له مألوفًا بشكل مزعج.

شيء ما في أعماقه… انزاح.

وللحظة، لم يرغب في القتل.

وحين انتهت من ملء الدلو، مسحت العرق عن جبينها ونهضت بهدوء.

تسلل بعيدًا قبل أن تلتفت.

في ذات اليوم عند الظهيرة، في الطرف الآخر من الجزيرة…

عُثر على جثث أربعة مزارعين معلّقة على أعمدة الحديد قرب الساحة الكبرى.

كتب على لوح خشبي أسفل أقدامهم:

“الإهمال خيانة.”

تحدّث الجميع بصوتٍ هامس عن الأمر.

كان المزارعون قد تأخروا في تسليم المحصول المخصّص لمخازن الزعيم. أحدهم حاول خداع الحرس ووضع أكياساً من التبن بدل القمح.

يوهان لم يعذر. لم ينذر. لم يرحم.

قال الحارس المكلّف بالتنفيذ إنه لم يرَ الزعيم غاضبًا هكذا من قبل.

“كان صامتًا جدًا… لكن عيناه كانتا تحرقان المكان. كأن الغابة كلّها اشتعلت فيه.”

**

حين عدتُ إلى البيت، كان كل شيء يبدو كالمعتاد…

لكني لم أكن كالمعتاد.

شعرت أن أحدًا ما كان هناك. يراقبني.

الغناء لم يعد مريحًا. الغابة لم تعد هادئة.

شيء ما بدأ يتغيّر في بيكشون.

وشيء ما… بدأ يتغيّر بداخلي أنا……

الفصل الثاني بعنوان كاميلا و اونجول

الفصل الثاني: كاميلا وأونجول

على أطراف جزيرة بيكشون، بعيدًا عن الميناء وعن الساحة الكبرى التي شهدت دماءً كثيرة، يقف قصر آل بيكشون ككتلة صخرية داكنة، لا يقترب منه سوى من دُعي إليه… أو من كان أحمق كفاية ليقتحم أرض الزعيم.

القصر قديم، جدرانه المظلمة مغطاة باللبلاب، والنوافذ العالية تعكس البحر والغيوم الرمادية. في الداخل، تعيش عائلة يوهان.

عائلة تعرف جيدًا من هو ابنها، الزعيم الذي حوّل الجزيرة إلى مملكة خوف.

يوهان ليس الوحيد في العائلة، لكن سلطته جعلت اسمه يتجاوز كل الأسماء.

أما والده، فيظل رجلًا تقليديًا، يرى أن الزواج والتحالفات السياسية أساس استمرار السلطة. وكان قد قرر في سرّه أن الوقت حان لأن يتزوج ابنه… لكن ليس أي زواج، بل زواج يخدم مصالح العائلة.

الخطة كانت واضحة: يوهان × إزميرالدا، ابنة عمة يوهان.

إزميرالدا… فتاة فائقة الجمال، تعرف كيف تلفت الأنظار. لكن في عيني يوهان، لم تكن سوى ظلّ طامع في السلطة. لم يكن يطيقها، ولا يطيق نظرتها التي تفحصه كما يتفحص التاجر بضاعته.

لكن العقبة الأكبر أمام هذه الخطة لم تكن رفض يوهان فقط… بل والدته، أونجول.

أونجول كانت امرأة قوية الحضور، أنيقة حتى في أشد لحظات الغضب. عاشت في بيكشون عمرها كله، ورأت كيف يمكن للسلطة أن تفسد الدماء، خاصة عندما يكون الطموح مشوبًا بالخيانة.

كانت تحتقر إزميرالدا ووالدتها كاميلا، وهي امرأة لسانها ملسون وقلبها مغطى بالجليد، لا ترى في الزواج سوى وسيلة للسيطرة. أما ابن كاميلا، رايدر، فكان رجلًا يبتسم كثيرًا لكن عينيه لا تعرفان الصدق، يتقرب من الجميع بحثًا عن مكاسب، حتى لو كان الثمن هو العائلة نفسها.

أونجول كانت تعرف أن الزواج من إزميرالدا لن يكون زواجًا، بل استسلامًا.

لهذا كانت تحارب الفكرة من الداخل، بصمت شديد لكن بإصرار.

– “إزميرالدا تريدك يا يوهان، لكن ليس قلبك… تريد عرشك.” قالتها ذات مساء وهي تصب لنفسها كأسًا من الشاي.

نظر إليها يوهان ببرود، كعادته، ثم ابتسم بسخرية:

– “عرشي لا يُؤخذ عبر حفلة زفاف، أمي.”

رغم ذلك، لم يكن هذا الكلام يريحها.

هي تعرف ابنها… تعرف أن قلبه ليس ساحة معركة مفتوحة، لأنه لا يؤمن بالحب أصلًا. بالنسبة له، الحب مضيعة للوقت، وسبب للضعف، وسلسلة حديدية يلتف أحد طرفيها حول العنق والآخر بيد شخص آخر.

لكن أونجول… وأفراد العائلة المقرّبون منها، كانوا يتمنون معجزة: أن يقع يوهان يومًا ما في حب فتاة.

فتاة تغيّر شيئًا في قلبه، مهما كان مستحيلًا.

لكن… في جزيرة مثل بيكشون، المعجزات دائمًا تحمل ثمنًا دمويًا

في صباحٍ رمادي آخر من صباحات بيكشون، كانت رائحة الخبز الساخن تتسلل من مطبخ منزل عمّتي كيارا.

كنتُ أحرك العجين ببطء بينما أبخرة الشاي تتصاعد أمام وجهي. كان هذا طقسنا اليومي البسيط، ملاذنا الوحيد من ضجيج الخوف الذي يسكن الجزيرة.

بينما أنا منشغلة، دوّى طرق على الباب. كان قويًا، سريعًا، وكأن الطارق يحمل خبرًا عاجلًا أو شوقًا كبيرًا.

مسحت كيارا يديها بمريولها، واتجهت لتفتح الباب.

لكن ما إن فعلت… حتى اتسعت عيناها، وانفرج فمها عن ابتسامة نادرة:

– “چان! لوكيه!”

وقفا أمام الباب، يرتديان معاطف ثقيلة، وعليهما آثار السفر الطويل. چان بدا أكثر نضجًا منذ آخر مرة رأيته فيها، أما لوكيه فكان يحمل تلك الطاقة المرحة التي لم تتغير منذ الطفولة.

– “لقد عدتما!” صرخت وأنا أهرع نحوهما، أعانقهما بحرارة.

ضحك لوكيه وهو يربت على رأسي:

– “كبرتِ يا ستيلا… وأصبحتِ تشبهين أمك أكثر.”

ابتسمت، لكن في داخلي، شعرت بوخز صغير عند ذكر أمي.

دخلنا جميعًا إلى المطبخ، وجلستُ بينهما حول الطاولة.

لم يأتِ أخوهما الثالث، إيزيك، لأنه بقي في بريطانيا، حيث يدير دوقية ريدنجر باسمه. كان إيزيك مختلفًا دائمًا… أكثر رصانة، وأكثر بُعدًا عن حياة الجزيرة.

بدأنا نتبادل الأحاديث، أولًا عن رحلتهما، ثم عن العمل، حتى وصلنا إلى الاسم الذي لا يغيب عن أي نقاش في بيكشون: يوهان بيكشون.

– “سمعنا أن الزعيم شنق أربعة مزارعين الأسبوع الماضي.” قال چان وهو يتناول قطعة من الخبز.

– “لم يكونوا أبرياء.” ردّت كيارا بهدوء، لكنها لم تخفِ مرارة صوتها.

– “حتى وإن أخطأوا،” أضاف لوكيه، “يوهان لا يعرف الرحمة… هو لا يحكم الجزيرة، هو يخنقها.”

كنت أستمع بصمت. لم أخبرهم أنني رأيته في الغابة، أو على الأقل شعرت بوجوده. شيء ما بدا وكأنني سأحتفظ به لنفسي… على الأقل الآن.

چان مال نحوي قليلًا، وكأن لديه سرًا:

– “يقولون إنه قريبًا سيُجبر على الزواج… لكن لا أحد يعرف ممن بالضبط.”

ضحكت كيارا بسخرية:

– “يوهان؟ الزواج؟… حتى البحر سيتوقف عن الحركة قبل أن يقع في الحب.”

لم أضحك. لا أعلم لماذا، لكن قلبـي دقّ أسرع من المعتاد…

الفصل الثالث بعنوان ظلال في الغابة

📖 الفصل الثالث – ظلال في الغابة

لم يكن الصباح قد تجاوز منتصفه عندما انقلب الجو الهادئ في منزل عمّتي كيارا إلى ساحة جدال صاخبة.

كنا ما زلنا نجلس حول الطاولة بعد حديثنا عن يوهان، حين قال چان بنبرة حاسمة:

– “قررت أنا ولوكيه أن نلتحق بالأمن الداخلي.”

توقفت يدي عن تقليب الشاي.

– “الأمن الداخلي؟… تحت إدارة من؟”

– “نيك، صديق يوهان المقرب.” قال لوكيه وكأنه يفتخر بالأمر.

شعرت ببرودة تتسرب إلى أطرافي. الأمن الداخلي يعني السلاح، الدم، والموت في شوارع بيكشون.

– “لا.” قلت بهدوء، لكنه كان هدوءًا مشحونًا.

– “لا؟ ولماذا لا؟” سأل چان بحدة.

– “لأنني… لا أريد أن أخسركما.”

لكن الكلمات لم تصل كما أردت.

كيارا حدقت بي بنظرة استغراب، ولوكيه رفع حاجبه باستهجان:

– “تخافين أن نخسركِ… أم تخافين أن نصبح أفضل منك؟”

– “ماذا؟!” شهقت وأنا أشعر بحرقة في صدري.

– “ربما لا يعجبك أن نعمل مع أشخاص لهم سلطة.” أضاف چان ببرود.

تملكني الغضب، ليس لأنهم شككوا في نيّتي، بل لأنهم لم يفهموا أن خوفي عليهم ليس ضعفًا، بل جرحًا قديمًا ما زال ينزف منذ فقدت والديّ.

قفزت من مكاني، ودفعت الكرسي للخلف بقوة، فصدر صوت ارتطام خشبي حاد.

– “افهموا ما شئتم… لكن لا تنتظروا مني أن أصفق لكم وأنتم تقتربون من فم الذئب!”

لم أنتظر ردهم. فتحت الباب وخرجت، والدموع تحرق وجنتيّ.

ركضت إلى الإسطبل، امتطيت حصاني الأسود، وضربت الأرض بقدميه لينطلق بسرعة عبر الطريق المؤدي إلى الغابة.

أوراق الشجر كانت تتطاير من حولي، والريح تصفع وجهي. لم أكن أرى أمامي سوى البحيرة، ملاذي الوحيد، المكان الذي أختبئ فيه من العالم.

لكن ما لم أكن أعلمه… أن شخصًا آخر كان يعبر الغابة في نفس اللحظة.

يوهان بيكشون، الزعيم نفسه، كان قد أنهى اجتماعًا مع رجاله، وقرر قضاء ما تبقى من النهار في هوايته المفضلة: الصيد. بندقيته على كتفه، خطواته ثابتة، وعيناه تمشّطان الطريق كصياد ذئاب.

حتى لمحني… حصاني يركض بجنون، وأنا أنحني للأمام، أضغط عليه ليمضي أسرع.

انعكس شيء في عينيه، لم يكن فضولًا فقط، بل رغبة في الإمساك بالسيطرة على هذا المشهد.

بسرعة، أوقف حصانه الخاص، قفز أمامي بطريقة جعلت حصاني يرفع قدميه الأماميتين عاليًا، ويصدر صهيلًا حادًا. أمسكني من ذراع اللجام بمهارة، وأوقف الحصان.

– “اهدئي… ستسقطين.” قال بصوت منخفض، لكنه يحمل قوة خفية.

تراجعت قليلًا، أنظر إلى ملامحه المظللة بظل الأشجار. كان وجهه مألوفًا بطريقة مخيفة.

– “من… أنت؟” سألت، وأنا أعلم أنني أكذب على نفسي.

ابتسم بخفة:

– “اسمي هيونغ مين. مجرد صياد في الغابة.”

– “صياد؟… في بيكشون؟” قلت وأنا أرفع حاجبي.

– “وهل تظنين أن بيكشون خالية من الهوايات؟” رد ببرود. ثم أضاف: “ما اسمك؟”

لم أجب. لم أكن غبية… كنت أعرف من هو. ربما لم أره من قبل وجهًا لوجه، لكن قصصه، صوته البارد في أوامر الإعدام، كلها محفورة في ذاكرتي.

– “لا تريدين أن تقولي؟” ابتسم مجددًا، وكأن الأمر لعبة.

شدَدت لجام حصاني، ثم قلت:

– “ليس كل من نلتقيه يستحق أن يعرف أسماءنا.”

استدرت، وانطلقت بالحصان مبتعدة، لكنني كنت أشعر بثقل نظرته خلفي حتى اختفى القصر الأخضر للأشجار بيننا.

عدت إلى المنزل، ولم أنبس بكلمة. لكن في داخلي، شيء تغيّر…

كنت أعلم أن هذا اللقاء لن يكون الأخير.

حين عدت إلى المنزل، لم أنطق بكلمة. نزعت معطفي، ووضعت الحصان في الإسطبل، ثم دخلت بخطوات هادئة إلى الداخل.

توجهت مباشرة إلى المطبخ، بدأت ألتقط المكنسة وأمسح الأرض، وأزيل الغبار من النوافذ، وكأنني أفرغ غضبي في نظافة البيت.

كيارا كانت تراقبني من بعيد، ملامحها متحجرة، بينما لوكيه و چان يتحاشيان النظر نحوي. لم أحاول الكلام معهم، ولم أنتظر منهم شيئًا، لكن جزءًا في داخلي كان يتمنى أن يعترفوا بخطئهم، أن يدركوا أنهم جرّحوا قلبي بكلماتهم.

مرت دقائق ثقيلة… ثم ساعات قصيرة، حتى لاحظت أن نظراتهم تغيرت. الصمت الذي بينهم لم يكن برودًا، بل شعورًا بالذنب.

لم أعلّق، ولم أترك لهم فرصة لفتح الحديث. صعدت إلى غرفتي، وأغلقت الباب بالمفتاح. جلست أمام مكتبي الخشبي، وفتحت كتاب التشريح. بعد يومين فقط لدي امتحان مصيري، ورغم كل ما حدث اليوم، لم أسمح لنفسي أن أترك دراستي تنهار.

من خلف الباب، سمعت همساتهم… بدا أنهم يخططون لشيء. ربما طريقة ليعتذروا أو يصالحوني، لكنني لم أهتم. على الأقل، ليس الآن.

أما في الجهة الأخرى من الجزيرة، كان يوهان قد عاد إلى مقر حكمه. المقر، أو “البيت الأسود” كما يسميه السكان، كان يعلو على ربوة صخرية تطل على البحر، تحيطه الأسوار العالية والحراسة المسلحة على مدار الساعة.

دخل إلى قاعة الاجتماعات حيث كان رجاله بانتظاره. جلس على رأس الطاولة، وألقى نظرة باردة على الجميع قبل أن يتحدث:

– “قللوا كمية الوجبات التي توزع على سكان الجزيرة. نصف الحصص السابقة فقط.”

تبادل بعض الحراس النظرات القلقة، لكن أحدًا لم يجرؤ على الاعتراض.

– “من يعترض، سيعرف ما يعنيه الجوع قبل الآخرين.” أضاف بحدة.

ثم التفت إلى نيك، صديقه المقرّب وقائد الأمن الداخلي:

– “أرسل رجلًا إلى جزيرة تتوبويا. أريده أن يراقب تحركات إيرلن… وأي نشاطات مشبوهة هناك.”

أومأ نيك بإيجاز، مدركًا أن هذه الأوامر ليست مجرد مراقبة، بل خطوة أولى نحو تحريك صراع قديم بين الزعيمين.

يوهان، في داخله، لم يكن قد نسي الفتاة التي رآها اليوم عند البحيرة، لكن اسمها لم يكن مهمًا بالنسبة له… على الأقل، ليس بعد……

لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon

تحميل PDF للرواية
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon