كان المطر يقرع زجاج النافذة بإيقاع ثقيل، كأنه ينقر على باب العالم السفلي. الدكتور يوسف حسن أغمض عينيه للحظة، مستمعاً إلى ذلك الصوت الذي بدا وكأنه يخترق جمجمته. كانت عيادته في الطابق العاشر من المبنى الطبي بوسط المدينة، لكن الضوء الخافت والهدوء المشوب بالتوتر جعلا المكان يشبه زنزانة مهيأة للتعذيب النفسي.
فتح عينيه فجأة عندما دق جرس الهاتف. لم يكن متوقعاً أي مكالمة في هذا الوقت المتأخر من الليل، لكنه التقط السماعة دون تردد.
"دكتور يوسف؟" صوت رجل متوتر، يكاد يكون مبحوحاً. "هنا الضابط وليد من قسم الشرطة الجنائية... نحتاج إليك. هناك حالة... لا نستطيع تفسيرها."
"حالة نفسية؟" سأل يوسف، وهو يفرك جبهته المتعبة.
"لا... أعني، نعم، لكن الأمر أكثر تعقيداً. نعتقد أن الضحية كانت مريضة عندك."
توقف قلبه لثانية. "من؟"
"رانيا محمود."
أغمض عينيه مرة أخرى. رانيا. تلك المرأة الثلاثينية التي كانت تزوره كل أسبوع منذ أشهر، تعاني من نوبات هلع لا تفسير لها، تخاف من الظلام، من المرايا، من أي شيء يعكس صورتها. كانت تقول دائماً: "هناك شيء يتابعني، دكتور. ليس خيالي... إنه حقيقي."
وبعد عشر دقائق، كان يقف أمام جثتها في شقة صغيرة مظلمة بحي النور. لم تكن الشقة فوضوية، بل نظيفة بشكل مخيف. رانيا كانت ممددة على الأرض في وسط الغرفة، بملابس بيضاء، يداها متقاطعتان على صدرها كأنها في نعش. لكن ما جعله يتجمد في مكانه هو ما كان مرسوماً حولها.
دماؤها.
لم تكن متناثرة، ولا علامات عنف عشوائي. بل كانت قد استُخدمت كطلاء لرسم زهور دقيقة حول جسدها، بتفاصيل مذهلة. زهور سوداء وحمراء، متشابكة كأنها حديقة صغيرة نبتت من ألمها.
"انتحار؟" همس يوسف، وهو يعلم في أعماقه أن الإجابة لن تكون بهذه البساطة.
الضابط وليد أومأ نحو النافذة المفتوحة. "قفزت من هنا. الطابق التاسع. لكن..." توقف، ثم أخرج هاتفه وعرض عليه صورة. "هذا ما وجدناه مكتوباً على مرآة الحمام."
الكلمات كانت مكتوبة بدماء، بخط أنيق وكأنه خط فنان:
"أخيراً... أصبحت جميلة."
شعر يوسف بموجة غثيان. هذا لم يكن انتحاراً عادياً. كان عرضاً. رسالة. عملاً فنياً.
عاد إلى العيادة في الصباح الباكر، منهكاً لكن غير قادر على النوم. فتح ملف رانيا محمود وبدأ يقلب الصفحات بلهفة، كمن يبحث عن دليل خفي أهمله من قبل. ثم توقف عند جلسة منذ ثلاثة أشهر، عندما قالت له:
"أحلم بحديقة، دكتور. كل الزهور فيها سوداء، ورائحتها... رائحتها مثل جثث متعفنة. وهناك طفل يقف في المنتصف، يبتسم لي. يقول لي إنني سأصبح جميلة قريباً."
كان قد تجاهل الأمر آنذاك، معتبراً إياه مجرد هذيان نوبة هلع. لكن الآن، الكلمات كانت ترن في رأسه كجرس إنذار.
وبينما هو غارق في أفكاره، رن جرس الباب. لم يكن متوقعاً أي مرضى قبل الساعة العاشرة، لكنه نهض وفتح الباب ليجد امرأة شابة تقف على العتبة، عيناها حمراوان من البكاء.
"دكتور يوسف؟ أنا... أنا أخت رانيا. أريد أن أعرف لماذا ماتت."
لكن قبل أن يتمكن من الرد، سقطت الفتاة على ركبتها وهي تبكي، ثم همست كلمات جعلت دمه يتجمد:
"لأنها لم تكن الأولى... ولن تكون الأخيرة."
وأخرجت من حقيبتها صورة قديمة. صورة لرجل يقف أمام مجموعة من الأطفال في حديقة. في الخلفية، لوحة كبيرة مكتوب عليها: "دار الأمل للأيتام."
"هل تعرف هذا المكان، دكتور؟" سألته بنبرة متهمة. "لأن القاتل يعرفه جيداً... وهو يعرفك أيضاً."
نظر يوسف إلى الصورة، وشعر وكأن الأرض تنفتح تحت قدميه.
نعم. كان يعرف هذا المكان.
بل وكان يعرف ذلك الرجل في الصورة.
لقد كان 'هو'.
(يتبع...)
كانت رائحة المطهرات في مشرحة المستشفى تخنق الحلق، كأنها تحاول إخفاء رائحة الموت فتفشل. وقف الدكتور يوسف أمام جثمان رانيا محمود، المغطى بملاءة بيضاء، بينما كان الطبيب الشرعي يرفعها ببطء لتكشف عن وجهها الشاحب. العينان مفتوحتان على اتساعهما، وكأنهما تريان شيئاً مرعباً في اللحظة الأخيرة قبل الموت.
"السبب الرسمي للوفاة هو الصدمة الناتجة عن السقوط من الطابق التاسع، لكن..." توقف الطبيب الشرعي عند كلمة "لكن" ونظر إلى يوسف، ثم أشار إلى رسوم الزهور الدموية حول الجثة. "هذا ليس عملاً عشوائياً. شخص ما أراد أن يترك رسالة."
التقط يوسف صورة مكبرة للرسوم. الخطوط كانت دقيقة، وكأنها رسمت بفرشاة فنان محترف. "هل تعتقد أنها رسمتها قبل أن تقفز؟"
"مستحيل. هذه الخطوط تحتاج إلى وقت وتركيز. شخص آخر فعل هذا... بعد موتها."
أحس يوسف ببرودة تسري في عروقه. لم يكن الأمر انتحاراً، بل طقساً. طقساً قام به قاتل يعرف كيف يحول الجثث إلى أعمال فنية.
عاد إلى مكتبه في العيادة، حاملاً ملف رانيا بين يديه. كان عليه أن يعود إلى جلساتها العلاجية، إلى كل كلمة قالتها، كل إشارة مرت دون أن يلاحظها. افتح الملف وبدأ يقرأ، بينما المطر يطرق النافذة كأصابع غير مرئية تطلب الدخول.
الجلسة الثالثة – قبل شهرين:
"أحلم بالحديقة كل ليلة، دكتور. الزهور فيها لا تشبه أي زهور رأيتها في حياتي. سوداء، لكنها جميلة بطريقة ما... كأنها تغذت على شيء فاسد فازدهرت."
الجلسة السابعة – قبل ثلاثة أسابيع:
"الطفل في الحديقة يتحدث إليّ الآن. يقول إنه يعرفني... يقول إنني سأصبح جميلة قريباً."
أغلق الملف بعنف. كان كل شيء أمام عينيه، لكنه لم يره. كيف فاته هذا؟ كيف لم يربط بين كوابيسها والتهديد الذي يختبئ خلفها؟
هاتفه رن فجأة. رقم مجهول.
"دكتور يوسف؟" صوت رجل مبحوح، يكاد يكون همساً. "إذا كنت تريد أن تفهم ما يحدث، ابحث عن دار الأمل." ثم انقطع الخط.
دار الأمل.
الاسم وحده كفيل بأن يجعله يشعر وكأن سكيناً يغرز في صدره. دار الأمل للأيتام... المكان الذي عمل فيه قبل عشرين عاماً، عندما كان طبيباً شاباً يبحث عن تغيير العالم.
الفلاش باك: قبل عشرين عاماً – دار الأمل للأيتام
كان المبنى القديم يبدو كقلعة مهجورة، بجدران متصدعة ونوافذ مغطاة بأتربة السنوات. دخل يوسف إلى القاعة الرئيسية، حيث كان الأطفال يجلسون في صفوف، يملؤون استمارات تحت إشراف مدير الدار، الرجل الذي كان يطلقون عليه "الأب منصور".
"الدكتور الجديد!" صرخ أحد الأطفال بسخرية.
كان هناك طفل واحد فقط لم يضحك. وقف في الزاوية، يحدق بيوسف بعينين واسعتين خاليتين من أي تعبير. "آدم"، كانوا يسمونه. لم يتكلم أبداً، ولم يلعب مع الآخرين. فقط يراقب.
في تلك الليلة، سمع يوسف صوت بكاء خافتاً يأتي من القبو. نزل ليجد آدم جالساً في الظلام، يمسك بدميته الممزقة.
"هل أنت بخير؟" سأله يوسف.
رفع آدم رأسه، وفي عينيه لمحة من شيء مرعب... شيء ليس من عالم الأطفال.
"هم يؤذوننا"، همس أخيراً. "ويقولون إنه حب."
في اليوم التالي، حاول يوسف التحدث إلى مدير الدار، لكن الرجل ضحك وقال: "بعض الأطفال يختلقون القصص، دكتور. لا تدع خيالهم يخدعك."
وبعد أسبوع، اختفى آدم.
'العودة إلى الحاضر'
رجف يوسف كما لو أن أحداً ناداه من الماضي. دار الأمل أغلقت منذ سنوات، لكن الذكريات لم تمت.
هاتفه رن مرة أخرى. هذه المرة كانت الرسالة صورة: جثة أخرى. رجل في الخمسينيات، ممدد على سرير من الزهور الصناعية الحمراء والسوداء، وعيناه مقتلعتان، وحلقه مفتوح كـ"ابتسامة" دموية.
تحت الجثة، كُتب بدماء:
"الزهور تحتاج سماداً لكي تنمو."
عرف يوسف الرجل. كان أحد العاملين في دار الأمل.
القاتل لم يكن ينتقم من مرضاه فقط... بل من كل من كان جزءاً من ذلك الجحيم القديم.
والسؤال الآن:
من التالي؟
(يتبع...)
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon