NovelToon NovelToon

همسات منتصف الليل

الفصل الأول: "حين تتلاقى الأرواح تحت ضوء المصباح"

> الساعة تقترب من الحادية عشرة ليلًا، والمدينة لا تزال تتنفس بهدوءٍ يشبه تنهيدة رجلٍ أنهكه النهار...

كانت الطرقات خالية تقريبًا، والمصابيح المعلقة على جانبي الشارع تضيء بأنوارٍ خافتة تميل إلى الصفرة، كأنها تهمس: "لا تزعجوا الليل".

في هذه الساعات المتأخرة، يخرج هارو من عزلته الطوعية، لا ليندمج في شيء، بل ليختلط بأصوات الشوارع الصامتة، بالأبنية النائمة، بالهواء البارد الذي لا يسأله من يكون.

هارو، فتى في السادسة عشرة، لا هو خجول تمامًا، ولا جريء تمامًا، فقط... يميل إلى الصمت أكثر مما يلزم.

يعيش وحده منذ سنةٍ تقريبًا في شقة صغيرة استأجرها في طرف المدينة، بعد أن أقنع والديه –بصعوبة– أن بقاءه وحده سيكون أكثر راحةً له، وأكثر راحةً لهم أيضًا. لم تكن بينه وبينهم مشكلات حقيقية، لكنه لم يكن يشعر بالانتماء داخل ذلك البيت، أو لأي بيتٍ في الحقيقة.

اعتاد أن يخرج بعد العاشرة مساءً، حين تُقفل أبواب العالم، ليبدأ عالمه هو.

في تلك الليلة، مرّ بجوار المدرسة القديمة، تلك التي أُغلقت للترميم قبل شهور. سورها الطويل المتهالك كان يُخفي وراءه ملعبًا صغيرًا وحديقةً مهجورة.

لأول مرة يشعر برغبةٍ في النظر إلى الأعلى.

وعندما فعل... رآها.

فتاة.

تجلس فوق السور كما لو أنها لا تنتمي للأرض. شعرها الأسود الطويل يتدلّى من كتفها الأيسر، وعيناها تراقبان السماء كما لو أنها صديقتها الوحيدة.

في يدها اليمنى قلم، وفي اليسرى دفتر صغير مفتوح، كانت تكتب فيه شيئًا، ثم تمحوه، ثم تكتبه مجددًا.

توقّف هارو.

لم يكن معتادًا على رؤية أحدٍ غيره في هذا الوقت، خصوصًا فوق سور مدرسة متهالكة.

ظلّ يحدّق بها قليلًا، مترددًا، لكن نظراته كانت ثقيلة بما يكفي لجعلها تلتفت نحوه ببطء.

نظرت إليه دون أي انزعاج، ثم قالت بهدوء:

– "أتعلم؟ السماء ليلاً أوضح بكثير ممّا تكون عليه نهارًا."

ظلّ صامتًا للحظة، ثم أجاب بصوت منخفض:

– "ربما... لأن الضوء يزاحمنا في النهار، وفي الليل يتنحّى جانبًا."

لم تبتسم، لكنها نظرت إليه نظرة طويلة، ثم قالت:

– "أنت لست من النوع الذي يخرج ليلًا ليبحث عن شيءٍ محدد."

– "صحيح. أنا أخرج لأهرب، لا لأبحث."

– "هربٌ من ماذا؟"

– "من... كل شيء تقريبًا."

اقترب ببطء حتى أصبح أسفل السور مباشرة، ونظر إلى الأعلى.

كانت تجلس وكأنها تعرف المكان جيدًا. قد تكون زارته مرارًا، وقد تكون تأتي إليه كل ليلة.

لكنه شعر بشيءٍ غريب؛ لم تكن غريبة... لا تمامًا على الأقل.

ربما لأن الهدوء يشبه الهدوء، وربما لأن الوحدة تتعرف على نفسها حين تراها في أعين الآخرين.

قال بنبرة خافتة:

– "ألا تخيفك الوحدة؟"

أجابت دون أن تُغير جلستها:

– "أخاف الزحام أكثر."

صمت.

ثم سألها بعد لحظة:

– "هل تجلسين هنا دائمًا؟"

– "كل ليلة تقريبًا.

أراقب الضوء وهو ينهزم، وأكتب... ما لا أستطيع قوله."

– "أشبهك أكثر مما تظنين."

نزلت من على السور بخفة، كأنها كانت تعرف أنه سيقترب.

وقفت أمامه، ثم قالت:

– "اسمي هانا."

ابتسم بخفة وردّ:

– "وأنا... هارو."

تبادلا نظرة قصيرة، ثم بدأت تمشي بهدوء على الرصيف، دون أن تطلب منه مرافقتها.

لكنه مشى بجوارها، دون أن يقول شيئًا.

قالت بعد لحظات:

– "في هذا الوقت، لا أحد يسأل، لا أحد يراقب، لا أحد يفسد الصمت. ولهذا أحب الليل."

– "وأنا كذلك. لا أحب أن تُقطع أفكاري بأسئلةٍ لا أملك إجاباتها."

قالت بعد تفكير:

– "هل تحب المدرسة؟"

– "لا أكرهها، لكن لا شيء يربطني بها. الأصدقاء؟ ليسوا أعدائي، لكن لا أحد منهم يفهم ما أفكر فيه."

هزّت رأسها ببطء:

– "مثلي تمامًا."

ظلّا يمشيان في صمت.

شارعٌ بعد آخر، خطوة بعد أخرى، كأن المدينة كلها سمحت لهما أخيرًا أن يتنفّسا.

وفي لحظةٍ ما، رفعت هانا رأسها وقالت:

– "هل ستخرج غدًا في نفس الوقت؟"

نظر إليها، ثم قال:

– "هل ستكونين هنا؟"

– "ربما."

ابتسم وقال:

– "إذن... سأكون."

الفصل الثاني: حينَ تهمسُ الصفحات

كان الليل قد بدأ يلفّ المدينة بلطف، حين خرج هارو من بيته كعادته، دون هدفٍ محدد. لم يكن في باله اللقاء، ولا الانتظار، بل فقط الحاجة لأن يمشي... ليشعر بأنّه ما زال حيًّا.

السماء كانت متلوّنة بلونٍ بنفسجي باهت، والهواء ينساب ببرودةٍ خفيفة، كأنّه يمرّده من الداخل. لا أحد في الشارع، لا صوت سوى خرير الريح بين الأشجار.

اقترب من السور المعتاد، لم يكن هناك أحد بعد، فجلس عليه بصمت، يُحدّق في الطريق البعيد، يفكر... لا بشيء على وجه التحديد، بل بكلّ شيء، دفعة واحدة.

أخرج هاتفه وتصفحه بلا تركيز، مرّت الدقائق ببطء.

حتى سمع خطواتٍ خفيفة تقطع السكون.

التفت.

كانت هانا تمشي بخطوات هادئة، تُخفض رأسها قليلًا، وتلفّ جسدها بسترتها الداكنة. وقفت أمامه للحظة، ثم جلست بجواره دون أن تنظر إليه.

قال بهدوء: "لم أكن متأكدًا إن كنتِ ستأتين."

رفعت رأسها قليلًا، وابتسمت ابتسامةً قصيرة، خافتة، ثم همست: "أنا أيضًا لم أكن متأكدة."

ظلّا صامتين برهة، ثم قالت: "هل تثق بشخص بالكاد تعرفه؟"

نظر إليها، ثم تنفّس ببطء وقال: "أحيانًا... الغرباء هم أكثر من نفهمهم. لأننا لا نضطر لادّعاء شيء أمامهم."

أومأت برأسها، ثم أخرجت من حقيبتها الصغيرة دفترًا أنيقًا، مغطّى بالجلد الأسود، ومدّته إليه.

"هذا دفتري... أكتب فيه أشياء لا أقولها."

تناوله منها بلطف، وبدأ يتصفح. الصفحات الأولى كانت مليئة برسوم للقمر، بأشكالٍ مختلفة، وبعضها كأنّه يذوب، أو يختفي، أو يبتسم.

ثم وجد كلمات مكتوبة بخطّ يدها:

> "كلّما ازدادت الأشياء جمالًا، ازداد الخوف من فقدانها."

"ليس كل من اختار العزلة، يكره الناس... بعضهم فقط أُرهق."

"القمر لا يطلب اهتمام أحد، ومع ذلك، نرفع أعيننا إليه في كل ليلة."

نظر إليها وقال: "هذا... عميق. وكأنكِ ترسمين مشاعرك لا أفكارك."

ردّت: "أخاف أن أتكلم... فيرحل من يسمعني. لهذا أكتب، على الأقل، الأوراق لا ترحل."

سكت قليلًا، ثم قال: "أحيانًا أشعر أنني لا أنتمي لأي مكان. أعيش وحدي تقريبًا. والداي يعملان في الخارج منذ سنوات... لا يزوراني كثيرًا، فقط رسائل."

قالت وهي تحدّق في الطريق: "وأنا أعيش مع جدتي... الناس من حولي يظنّون أنني غريبة الأطوار، لكنني فقط... لا أريد أن أكون بينهم."

توقّف قليلًا، ثم مدّ يده وناولها دفترها: "أعتقد أنّكِ أوضح مما تظنين، فقط لا أحد يحاول الفهم."

قالت وهي تضعه في حقيبتها: "وربما لا أريدهم أن يفهموا."

ابتسم، ثم نهضا معًا ليتمشّوا في الطريق الطويل الممتد على جانب الحديقة.

أثناء المشي، بدأت تحكي له عن طفولتها: "كنت أخاف من الأصوات العالية... وما زلت. لذلك أحبّ الليل. حتى صراخه ناعم."

قال هو، وهو ينظر إلى الأشجار: "كنت دائمًا في الخلف، في كل شيء. لا أتقدم في الصف، لا أشارك في النقاشات، لا أحتفل بشيء."

ضحكت بخفّة، وقالت: "كأنك تصفني."

أضافت بعد لحظة: "حتى في المدرسة... لم يكن لي أصدقاء. فقط الكتب. والسماء."

قال: "أنا لم أحبّ الدراسة أبدًا، لكنّي أحب المراقبة... أراقب الناس، أفكارهم، حركاتهم، لا أعرف لماذا."

ظلّا يمشون ويتحدثون، حتى لاحظ هارو شيئًا صغيرًا بين الشجيرات.

"ما هذا؟" قال وهو ينحني ليلتقطه.

كان كتابًا صغيرًا مغطّى بالتراب، يبدو قديماً، وغلافه ممزق من الحواف. فتحاه معًا.

في الداخل... جمل مبعثرة، رسومات هندسية، رموز، وأسطر بلا ترتيب، كأنّه دفتر ملاحظات كتبه شخصٌ مستعجل، أو خائف:

> "١٢-N بعد منتصف الليل"

"من يجد الطريق، عليه أن يغمض عينيه أولًا."

"الظل الذي لا ظلّ له، هو البداية."

نظرا إلى بعضهما بدهشة.

قالت هانا، وعيناها تلمعان قليلًا:

"ربما... هذه مغامرتنا."

أغلق هارو الكتاب، وابتسم: "فلنرَ إلى أين يقودنا هذا."

سارا في صمت، تحت ضوء القمر، والمدينة من حولهما، كأنها تستمع إلى خطوات البداية...

الفصل الثالث: حينَ تحكي الأوراق

كانت الليلة الثالثة هادئة بشكلٍ غير معتاد، كأنّ المدينة نفسها تنتظر شيئًا. جلس هارو وهانا على السور المعتاد، دفء الضوء الخافت يتراقص فوق وجهيهما، وبين أيديهما الكتاب الغامض، وقد بدأا أخيرًا يفتحان أولى صفحاته، بترقّبٍ يُشبه التوق لرسالةٍ من عالمٍ آخر.

قالت هانا وهي تُقلّب الصفحة الأولى:

"انظر... الكتاب مُقسّم إلى فصول."

قرأ هارو العنوان بصوتٍ منخفض:

"فصل أول: ظلُّ الفتى الأخرس."

تبادلا النظرات، ثم بدأت السطور تروي:

---

**في قرية نائية لا يزورها القمر، عاش فتى لا يتكلّم. لم يكن أخرسًا بخلقة، بل نذر صمته للعالم، بعد أن اختفى أخوه ذات ليلة ولم يعُد.

كان الفتى يرى أخاه في الظلّ، لا في النور. كلّما أشرقت الشمس اختفى، وكلّما حلّ الليل، انعكست ملامحه على جدران الغرف، على الماء، على الزجاج.

لكنّ أحدًا لم يصدّقه.

في كلّ يوم، كان يرسم شكلًا جديدًا لذلك الظلّ، في دفترٍ أسود أخفاه تحت بلاطة في غرفته.

حتى أتى ذلك اليوم، حين رسم شكلاً لا يُشبه أخاه، بل يُشبه نفسه، لكن بلا وجه.

وفي الصفحة المقابلة، كتب شيئًا واحدًا:

"حين تعرف الفرق بين ظلّك وظلّ من تُحب، تبدأ الرحلة."

ثم اختفى الفتى. لم يبقَ سوى الدفتر، والظلّ الأخير.**

---

أغلقت هانا الصفحة ببطء، ثم نظرت إلى هارو بعينين شبه مرتجفتين:

"إنها قصة غريبة... لكنّ فيها شيئًا يجذبني."

قال هارو وهو يخرج دفترًا صغيرًا من حقيبته:

"اللغز يبدو غير مباشر... علينا تحليله على مراحل."

بدأ يرسم على الورق أشكالًا حاولوا استنتاجها من القصة: ظلالًا، شخصيات بلا ملامح، وخطوطًا متقاطعة.

قالت هانا:

"القصة تكرّرت فيها كلمة (الظلّ) كثيرًا... والفتى كان يرسم شيئًا كل يوم... لعلّ الرسوم هي المفتاح؟"

أشار هارو إلى السطر الأخير من القصة:

"حين تعرف الفرق بين ظلّك وظلّ من تُحب...

هذا يعني وجود تشابه، لكنّ ثمّة فرق صغير... ربّما علينا المقارنة؟"

قلّبا الصفحات التالية، فوجدا رموزًا هندسية معقّدة، بعضها دوائر داخل دوائر، وبعضها أشكال ثلاثية الأضلاع.

وفي أسفل إحدى الصفحات، كُتب:

> "من يُجيد الملاحظة، سيرى أن الظلّ لا يُحاكي كلّ حركة."

قالت هانا:

"هذه جملة غريبة... دعنا نرسم الرموز ونرى إن كان ثمة أمر غير منطقي."

قضيا قرابة الساعة يرسمان، يقارنان، يخطّطان خطوطًا وهميّة بين الرموز.

قال هارو وهو يُشير إلى أحد الأشكال:

"هذا الشكل يتكرّر أكثر من مرّة، ولكنّه يختلف في زاوية صغيرة فقط... قد يكون هذا هو عنوان الكتاب التالي؟"

فتحت هانا تطبيق البوصلة في هاتفها، وبدأت تربط بين الزوايا، ثم قالت:

"يمكننا تحديد الاتجاه... فلنرَ إن كان هناك مكانٌ حقيقي يُطابق شكل هذه الرسمة."

تبعًا للخطوط، بدا الشكل قريبًا من حيّ خلف مدرستهم القديمة، مكانٍ مهجور قليل الحركة.

وقفا في منتصف الطريق، والهواء الليلي بدأ يشتدّ برودة.

قالت هانا بابتسامةٍ خفيفة، يخالطها بعض الخوف والفضول:

"هل نذهب؟"

ردّ هارو دون تردّد:

"لا رجوع بعد الآن... هيا بنا."

سارا معًا، أضواء الشوارع تتراقص فوق ظلالهما، حتى وصلا إلى زقاق ضيّق خلف أحد المباني القديمة.

وهناك، تحت مقعد خشبيّ متهالك، وُجد كتاب آخر، بلون داكن أكثر من الأول، كأنّ الظلّ ذاته قد التهمه.

رفعه هارو ببطء، ونظر إلى هانا.

قالت بصوتٍ هادئ:

"تلك كانت أول خيوط اللغز... ولا يزال أمامنا طريقٌ طويل."

نظر كلاهما إلى الكتاب الجديد، وعيناهما تلمعان في ظلام المدينة.

"وفي ظلال الليل… لا أحد يعرف أيّ الأسرار تُكتَب، وأيّ الأرواح تُستَدرَج."

نهاية الفصل الثالث

لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon

تحميل PDF للرواية
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon