..."أنا جائعة..."...
...قالت الطفلة بصوتٍ خافتٍ يملؤه الكآبة، وهي تُومِئُ برأسها نفيًا، وشَعرُها مُهْمَلٌ كأنّ الجرذان قد عبثت به....
...لقد مرَّ ثلاثةُ أيّامٍ منذ أن ملأت الطفلةُ بطنَها بالماءِ فقط....
...رغم أنّها قد اعتادت الجوع، إلّا أنّ الأمور بدأت تختلط في ناظرَيْها، فلم تَعُد تُفْرِقُ بين الخشب واللحم....
...وبينما خارت قُواها، هَوَتْ إلى الأرضِ وجَلَستْ منهارةً....
..."هل يُمكن أكل هذا...؟"...
...مدّت يدها الصغيرة، التي تُشبه أوراقَ السرخس، واقتلعت بعض الأعشابِ من الأرض، ثمّ ما لبثت أن تنهدت بضعفٍ وألقتها من يدها....
...وخلفها، انتصب القصر المهجورُ كخلفيّةٍ موحشة، يلفّه الصمت والخراب....
...كان يُستَخدَم كمخزنٍ للأشياء غير النافعة، فلا أثرَ فيه لبشر، ولا روحَ تعمره....
...وصاحبةُ هذا القصر المهجور لم تكن سوى طفلةٍ صغيرةٍ، ضئيلةِ الجسد....
...وبالطبع، لم يكن أحدٌ يعلم بوجودها هُنا، ولم يعترف بها أحد....
...لكنّ الطفلة، التي استقرّت في هذا المكان منذ سبعِ سنوات، لم تَعُد ترى في ذلك أمرًا غريبًا....
...كانت مُستلقيَةً وسطَ الأعشابِ التي نَمَتْ بكثافةٍ داخلَ أسوار القصر، دون عنايةٍ أو حُرمة....
...مظهرُها البائس، وشَعرُها المُتلبّد بالتراب والأوراقِ اليابسة، وملابسُها المُمزّقة التي لم تَعُد سوى قطعِ قماشٍ بالية، كلّها تشي بالبؤس....
...وما زاد المشهدَ حُزنًا، أنّ ما كانت ترتديه من ثيابٍ هو بوضوحٍ لباسٌ لِبالغ،...
...لكنّها، بجسدِها النحيلِ الضامر، بدت كأنّها ارتدت كيسًا من الخيش....
...وكان نصفُ الثوبِ يجرُّ خلفها، ملطّخًا بطينِ الأرضِ وبقايا الأعشاب....
...أما قدماها، فكانتا حافيتين، ولم تكن ترتدي أيّ سروالٍ تحت ذلك الثوب الفضفاض....
..."متى سيعود شيون؟"...
...تَذَمَّرتْ، ودفعت شفتَيْها للأمام بتبرُّم، ثمّ تدحرجت فوق الأعشاب مُظهرةً ضيقها....
..."أنا أكرهُ الانتظار..."...
...رغم علمها اليقينيّ أنّه سيعود، إلّا أنّها لم تَطِقْ صبرًا....
..."سأعود بالتأكيد."...
...قالها شيون وهو يَضربُ صدره الصغير مؤكدًا، ووعد بأن يُحضر لها شيئًا من الفاكهة، ولكنّ غيابه قد طال كثيرًا....
...هي لم تكن تطمح لشيءٍ عظيم، فقط لو جاءها بثمرةٍ واحدة، لَكَان ذلك كافيًا لِتحقيقِ أمنية....
...وفجأة، خَرْقَ الصمتِ صوتٌ خافتٌ بين الأعشاب، فانتفضت أذناها الصغيرتان بتنبه....
..."آه، كم هو ثقيل... هل نضعه هناك في الداخل فحسب؟"...
..."أجل، أعتقد أنّ هذا يكفي."...
...فور أن وصل الصوت إلى مسامعها من جهة بوابة القصر، انتفضت الطفلة من الأرض ووقفت على قدميها بمرونةٍ عجيبة،...
...واندفعت تعدو بين الأعشاب الكثيفة التي بلغ طولها رُكبتيها، متجهة نحو مصدر الصوت....
...برشاقةٍ ماهرة، تَسلَّقتْ جذعَ شجرةٍ ضخمةٍ بجوار القصر، وتعلّقت به كما تتعلّق الزيزان بجذوع الأشجار....
...ثمّ بدأت تتسلّق الشجرةَ بخفةٍ، شفتيها مضمومتان، ويديها الصغيرتان ملوّثتان بالتراب، وشَعرُها الكثيف يَحجبُ عينيها حتّى ليصعبُ أن ترى ما أمامها....
...وما إن اقتربت الأصوات، حتّى خبأت جسدَها النحيلَ بين الأغصان الكثيفة، وكانت الغصونُ العريضةُ كافيةً لإخفائها تمامًا....
...ثمّ، دخلت من بوابة القصر ثلاثُ نساءٍ يحملن طاولةً ضخمةً مُزخرفة، ويُكافحن لتوازُنها أثناء المشي....
...'إنّهم أُناسٌ غريبون...!'...
...كانت الطفلة قد اعتادت أن تقتحمَ القصرَ بين الحين والآخر مجموعاتٌ ترتدي ملابس سوداء أو بيضاء، يتركون أشياءهم ويمضون دون إذن....
...عَقَدَت حاجبَيْها بغيظ، وارتسمت على وجهها علاماتُ الحنق....
..."لكن، أليس هذا المكانُ قصرًا؟ كيف تحوّل إلى مخزن؟"...
..."بما أنّه بعيدٌ عن القصرِ الرئيسيّ، تُرِك مُهملًا، وعندما احتاج كبيرُ الخدمِ لمكانٍ يضع فيه الأمتعة الكبيرة، استأذنَ الملكَ فأَذِنَ له."...
..."حسنًا، إن كان مهجورًا، فلا بأس باستخدامه بهذه الطريقة."...
...انهمكت الخادمات في الحديث، غافلاتٍ تمامًا عن وجود الطفلة....
...راقبتهنّ الصغيرةُ في صمت، وقد قبضت على قبضتَيها بقوة....
..."إنّه قصرٌ مستخدم..."...
...تمتمت الطفلةُ بصوتٍ بالكاد يُسمَع، ثمّ أَحنَت رأسَها تنظرُ إلى الأسفل....
...ومن خلال شَعرها المُنْسَدِل، لَمَعَت عيناها كأنّهما شُعلة....
...فلم تكن عيناها كعيون البشر؛ إذ لم يَكُن بريقهما انعكاسًا للنور، بل نورًا متوهّجًا بحدّ ذاته....
...حتّى في وضح النهار، كان لمعانهما أشدّ من عيون الوحوش في الظلام....
...كأنّها جوهرتان تتلألآن تحت أشعة الشمس....
...وحين أمالت رأسَها مجددًا، عاد شَعرها ليُخفي تلك العيون المتقدة....
..."على أيّة حال، نحن مجرد خادماتٍ بسيطات، فلا داعي لأن نقلق بشأن ذلك. لكن، هل سمعتن عن الشائعات الغريبة بشأن هذا المكان؟"...
..."شائعات؟"...
..."نعم، يُقال إنّ هناك شبحًا يظهر هنا! أحيانًا تُسمَع ضحكاتُ طفلٍ، أو أصواتُ حيوانات!"...
...تجمّدت الطفلةُ في مكانها، تَشيحُ وجهها المرتعد عن مصدرِ الصوت،...
...ثمّ، وفي غمرةِ توترها، انكسر الغصنُ الرقيقُ الذي كانت تقبض عليه بقوّة، فانسابت منها شهقةٌ خافتة:...
..."آه..."...
...حدّقتِ الطفلة بشرودٍ في الغصن الرفيع الذي كسرَتهُ بنفسها....
..."آااه، لا تقولي مثل هذا الكلام! لقد أصابني القشعريرة!"...
..."على أية حال، لا أحد يأتي إلى هنا ليلًا."...
..."لعلّه... ليس شبحًا أو شيئًا من هذا القبيل، أليس كذلك؟"...
...صرخت الخادمات الثلاث بصوتٍ مرتفع عندما سمعن الصوت، ثمّ سرعان ما هرعن خارج القصر....
...بعد أن اختفى أثرهنّ تمامًا، وأخذ الوقت يجري بهدوء، بدأت الطفلة المتخفّية بين أغصان الشجرة تتحرّك بحذر، ونزلت رويدًا رويدًا وهي تتحسس المكان من حولها....
..."كيوو؟"...
...شعرت الفتاة بشيءٍ يلمسُ قدمها، فسرعان ما أشرقت ملامحها، وانحنت تنظر إلى الأسفل....
..."شِيُون!"...
...همست باسمٍ عزيزٍ بصوتٍ خافتٍ تغمره الفرحة، ثمّ أسرعت واحتضنت مخلوقًا صغيرًا يُشبه السحلية، كان أسودَ اللون ومليئًا بالتراب....
...عانقتهُ بحنانٍ، فبدأ ذيله الطويل يضربُ على معصمها كما لو كان يعاتبها....
..."آه... يؤلمني."...
..."كيو! كيو!"...
...قفز المخلوق من بين ذراعيها، وتسلّق جسدها بخفةٍ قبل أن يهبط على الأرض....
..."أين الطعام؟"...
...سألت الفتاة وهي تبتسم ابتسامةً مشرقة، بدت عينا الكائن الصغير تلمعان ببريقٍ متباهٍ....
...ثمّ أخذ يحفر بأظافره الحادة في الأرض، متقدّمًا نحو جذعِ شجرةٍ قريبة، قبل أن يقف على قدميه الخلفيتين ويبدأ بضرب ذيله على الأرض وهو يُشير بأظافره نحو أسفل الجذع....
..."ما الذي يوجد هناك؟"...
...جثت الفتاة على ركبتيها، وانحنت حتى لامس أنفها الأرض، تتفقد المكان الذي أشار إليه....
...لكن ما إن رأت ما كان يقصده، حتى اختفى البريق من وجهها، وحلّ محلّهُ خيبةُ أملٍ واضحة....
..."شيون... أتُراني سأكل هذا؟"...
...ظهرت ابتسامة باهتة على وجهها خلف خصلات شعرها الطويلة....
...كان ما أشار إليه الكائنُ ليس سوى فأرٍ، أحشاؤهُ تتدلّى منه، ولم يلفظ أنفاسه بعد....
...تنهدت الطفلة الصغيرة تنهيدةً ثقيلة....
..."هذا لا يكفي لاثنين."...
...ثمّ مالت بجسدها المنهك على جذع الشجرة، وقالت:...
..."كله لك."...
...دفعت بالفأر إليه، ثمّ جلست تلفّ ذراعيها حول ركبتيها....
...ذلك القصر المتروك الذي تحوّل إلى مخزنٍ كان مأواها الوحيد، رغم أنها تسكنه من دون إذنٍ أو اعتراف....
..."شيون، سمعت أنّك عندما تكبر، تصبح ضخمًا جدًّا..."...
...رفعت رأسها نحو السماء....
..."فهلّا حملتني على ظهرك، وأخذتني بعيدًا، حين تكبر؟"...
...لم تكن تريد البقاء محاصرةً بين جدران هذا القصر، كأنّه بئرٌ عظيمة....
...قــررغغغ~...
...دوّى صوتُ جوعٍ مفاجئ من بطنها، فنهضت بتثاقلٍ من مكانها....
...في الجهة الخلفيّة من القصر، وُجدت بركة صغيرة. لم تكن نظيفةً أو معتنى بها، إذ تغطّيها أوراق الشجر والطحالب، لكنّها تمتلئ كلّما هطلت الأمطار، ولم تكن تجفّ....
...إن اعتُبرت مياه البركة طعامًا، فهي الوحيدة التي يمكنها أن تشبع بها....
..."مرحبًا! سمعت؟ الأميرَان سيتبارزان بالسيف!"...
...امتدّت أصوات الجنود من خلف الجدار المتهدم....
...وبمجرّد أن سمعت الطفلة ذلك، اختبأت خلف الشجرة، وتيبّس جسدها بالكامل....
..."مبارزة؟! ما المناسبة؟"...
..."الملك وعدَ بمنح حصانٍ فاخر، ويبدو أنّ كلا الأميرَين أراده، فقرّرا خوض نزالٍ شريف!"...
..."يا للعجب! رؤيتهما معًا أمرٌ نادر! هيا نُسرع لنراهما!"...
...بينما كانت خطاهما تبتعد، أرخَت الفتاة جسدها، ثمّ بدأت تمشي ببطءٍ حافية القدمين نحو شيون....
..."كيوون؟"...
...مال المخلوق الأسود برأسه متسائلًا....
..."...شيون، هل أنهيتَ طعامك؟ هيا نذهب لنشرب الماء."...
...قالت ذلك وهي تحتضنهُ برفق، رغم بقع الدم حول فمه، ثمّ اختفَت خلف القصر، حاملةً أملًا صغيرًا في قلبها. ...
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon