كانت السماء ملبّدة بالغيوم في ذلك المساء، والهواء البارد يلسع وجه نور وهي تنزل من الحافلة الصغيرة في أطراف مدينة قديمة لا تظهر على خرائط الإنترنت. حملت حقيبتها على كتفها، نظرت حولها، وكل شيء كان... غريب. الشوارع شبه فارغة، البيوت متهالكة، والهدوء؟ مريب لدرجة تجعل قلبها ينبض بعنف دون سبب واضح.
"قالوا لي بيت صغير، قديم، لكنه نظيف ورخيص. مستحيل ألقى فرصة زي كذا،" تمتمت لنفسها وهي تمشي بين الأزقة الضيقة حتى وصلت إليه.
منزل رقم 9.
منزل خشبي بلون رمادي باهت، نوافذه مغطاة بستائر سوداء ممزقة، وبابه الأمامي مائل وكأنه يوشك أن يسقط.
نور ابتسمت بسخرية: "جميل... كأنه خارج من كابوس."
لكنها كانت تعشق المغامرة. كل شيء غريب يجذبها. وكل ما هو ممنوع... يغريها.
فتحت الباب بصوت صرير حاد اخترق أذنيها مثل سكين، ودخلت.
الداخل كان أغمق من الخارج، رغم أن الشمس لم تغب بعد. ريحة قديمة، كأن المكان ما تنفس من سنين. الغبار في كل زاوية، لكن الغريب؟ الأثاث مرتب تمامًا، كأن أحدهم كان هنا... منذ دقائق فقط.
رفعت حاجبها وهي تتمشى ببطء داخل الممر الضيق. كل لوحة على الجدران بدت مشوهة. وجوه بلا عيون، رجال بلا أفواه، أطفال يبتسمون لكن ابتسامتهم... مش طبيعية.
شيء ما في الصور يراقبها.
دخلت الغرفة الرئيسية، وهناك وجدت شيئًا غيّر كل شيء.
صندوق أسود صغير، فوق طاولة قديمة، مغلّف بسلاسل صدئة، ومعه ورقة مكتوب عليها بخط يدوي غريب:
> "لا تفتحيه يا نور."
شهقت. "إيش؟! من كتب اسمي؟!"
قلبها بدأ يطرق بقوة، لكنها، كالعادة، اختارت تجاهل المنطق.
يدها اقتربت من السلسلة... لم تكن باردة. كانت دافئة... كأن أحدهم كان يلمسها قبلها مباشرة.
وفجأة، سمعت الخطوات.
ثقيلة. بطيئة.
قادمة من الطابق الثاني.
هي وحدها في المنزل... أليس كذلك؟
أمسكت الصندوق وبدأت تتراجع، لكن الباب... أغلق من تلقاء نفسه.
الخطوات تقترب.
ثم همسة.
"نور..."
الخطوات استمرت.
تُحدث صريرًا خافتًا على الأرضية الخشبية، كأن أحدهم يجرّ قدميه فوقها ببطء... بثقل... وكأنه لا يملك أرجلًا بشرية.
ونادتها الهمسة من جديد.
"نووور..."
لم تكن صرخة. لم تكن حتى همسة بشرية.
كانت كأنّ شيئًا من داخل الجدران ينطق اسمها، صوت مخنوق، مجروح، ومشبع بالحقد... أو ربما الحنين.
نور أمسكت الصندوق بإحكام وكأنّه حبل نجاتها. حاولت فتح الباب بقوة، لكنه لم يتحرك. كأن أحدًا أو شيئًا يقف خلفه ويمسك المقبض من الجهة الأخرى.
"يا رب... يا رب، وش جالس يصير؟"
لكنها ما كانت مؤمنة جدًا، وما كان وقتها الوقت المناسب تبدأ تصلي.
كان الوقت... للركض.
ركضت نحو المطبخ، لكن المكان تغيّر.
الجدران بدأت تتنفس، تصدر صوتًا خفيفًا مثل أنين شخص مدفون حي.
الصور على الجدران؟ تحركت. الوجوه فيها الآن تفتح أعينًا دامية، وتتابعها بنظرات حارقة.
صرخت نور، سقط الصندوق من يدها وانفتح.
لا مفتاح. لا كسر. فقط... انفتح.
كأنّه كان ينتظر اللحظة.
ومن داخله... خرجت ورقة.
ورقة صفراء، مكتوب فيها بخط قديم ومتكسّر:
> "البيت استيقظ. الآن، لا يمكنك المغادرة.
لتغفري ذنبك، عليكِ أن توقظي الباقين."
نور شهقت. "ذنب؟ أي ذنب؟ أنا ما سويت شيء!"
لكن الورقة اشتعلت من تلقاء نفسها، احترقت بالكامل، دون نار، دون صوت.
وفجأة...
كل شيء سكت.
الصمت كان مطبق. خانق.
حتى تنفّسها ما كانت تسمعه.
ثم... صوت خطوات جديدة.
هذه المرة، قريبة جدًا.
من خلفها مباشرة.
استدارت.
وكان واقف.
جسد طويل. مشوّه. رأسه مائل بزاوية غريبة. وجهه بلا ملامح... فقط فم.
فم مفتوح على آخره... يبتسم لها.
"أهلًا... نور."
---
---
اليوم التالي… أو هذا ما ظنّته.
نور فتحت عينيها على ضوء أبيض ساطع.
الأسقف عالية، الجدران ناصعة، كل شيء نظيف… أكثر من اللازم.
لم تكن في بيت الأشباح… كانت مستلقية على سرير معدني، مربوط بحزام جلدي، وذراعها تحتوي على إبرة مغروسة.
"أين... أنا؟"
دخلت امرأة ترتدي معطفًا طبيًا أبيض، نظّارتها سميكة، وابتسامتها… مزيفة جدًا.
"أهلًا نور. أنا الدكتورة ليلى. لقد مررتِ بحالة انهيار شديدة. يقولون أنكِ كنتِ في منزل مهجور تصرخين وتضربين رأسك بالحائط."
نور اتسعت عيناها، حاولت النهوض لكن الحزام شدّها.
"لا! لا! ما كان حلم! كان حقيقي! كان فيه كائن… وصندوق… وصرخات!"
الدكتورة دون أن تغيّر نبرة صوتها:
"نور، لا يوجد شيء اسمه منزل رقم 9. العنوان الذي أعطيتِه للشرطة لا يقود إلى شيء. قطعة أرض فارغة منذ عشرين سنة."
"أنت تكذبين! البيت موجود! أنا شفت... شفت وجهه! وكان يناديني باسمي!"
ليلى دوّنت شيئًا في ملف أمامها:
"هلاوس صوتية. توهّم مكاني. حالة انفصام جزئي؟"
نور بدأت تبكي، لكن دموعها ما كانت ضعف… كانت قهر.
هي تعرف أنها لم تتوهم.
تعرف أنها دخلت البيت، تعرف أنها حملت الصندوق، تعرف أن هناك... شيئًا ما زال يراقبها.
في الليل، وهي مستلقية على السرير، سمعت صوتًا في الغرفة.
"نور..."
ليس من الخارج. ليس من الممر.
من داخل رأسها.
"طلّعيني من هنا!" صرخت.
"ما فيني شيء! فيه شيء يتبعني، ما تتفهمون؟!"
لكن لا أحد أتى.
الغرفة أصبحت باردة فجأة، والضوء بدأ يلمع بشكل غريب.
ثم ظهر ظلّ طويل عند الزاوية، لا يملك عيونًا، لكن نور شعرت بنظراته تحرق جلدها.
"منزل رقم 9 لم يكن مدخلًا فقط،"
قال الصوت داخلها،
"كان ختمًا… وفتحتِه."
الظل اقترب ببطء، والزجاج على النافذة تشقّق.
نور بدأت تضحك… تضحك بجنون… ثم تصرخ… ثم تضحك مجددًا.
"أنا لست مجنونة... أنتم المجانين! الكل أعمى!"
والظلّ ابتسم.
---
في صباح اليوم التالي، وجدوا نور جالسة على الأرض، تنظر للفراغ، تهمس بكلمات غير مفهومة.
لكن على الجدار خلفها، كانت هناك جملة مكتوبة بدمها:
> "لقد استيقظ… واللعنة بدأت."
اللعنة بدأت فعليًا. والرعب أصبح واقع.
لم يكن أحدٌ يُصدق نور.
في عيون الجميع، هي مجرد فتاة مريضة، ضائعة في دوامة هلوسات...
لكن داخلها؟
كانت تشعر أن هناك شيئًا يتمدد في الظل، يعيش داخل الجدران، يتغذى على الخوف… وعليها.
في الليلة التالية، لم تنم.
الضوء في غرفتها بدأ يخفت تدريجيًا، الساعة المتوقفة على الجدار بدأت تدق فجأة…
لكن عقاربها تدور للخلف.
نور جاهدت نفسها لتبقى هادئة.
لكن صوت الهمسات عاد.
هذه المرة ليس فقط باسمها… بل بكلمات غريبة، بلغة لا تفهمها، لكنها تشعر بها في نخاع عظامها.
ثم حدث ذلك.
انشقّ الجدار.
نعم، كأنّ أحدهم شقّ الجدار من الداخل بمخالب طويلة.
ظهر فراغ أسود خلفه، دوّامة من ظلام حي، منها خرجت ذراع طويلة نحيلة، رمادية اللون، تنتهي بأصابع ملتوية تقطر دمًا.
نور لم تصرخ.
لم تعد تصرخ.
كانت تشاهد… كأن شيئًا بداخلها أرغمها أن تبقى.
الذراع أمسكت قدمها…
وسُحِبت.
صرير... صرخة مكتومة... وظلام.
---
فتحت نور عينيها لتجد نفسها مستلقية في المكان ذاته… لكن بشكل مشوّه.
الجدران تنبض وكأنها لحم حي، السقف يتقطّر دمًا أسود، وروائح موت وفساد تملأ المكان.
أهلاً بكِ في الجانب الآخر…
قال صوت داخل عقلها، عميق، أجشّ، كأنه آلاف الأرواح تتحدث في آنٍ واحد.
"أين... أنا؟"
سألت نور، لكن صوتها خرج مشوّهًا.
ظهر كيان أمامها.
جسد شفاف، يتلوّى، بوجه بلا ملامح… إلا عينان سوداوان… يبكيان دمًا.
قال الكيان:
"نحن الأرواح التي دفنها منزل رقم 9… وكلنا نريد منك شيئًا، نور."
"أنا؟ لماذا أنا؟!"
"أنتِ… فتحتِ الباب."
وفجأة، أحاط بها العشرات منهم…
أرواح محترقة، مقطّعة، أطفال بأعين مقلوعة، نساء تصرخ دون صوت، رجال يحملون رؤوسهم بأيديهم.
ثم سمعت اسمه.
"هو قادم."
نور لم تسأل "من؟"… لأنها شعرت به.
الهواء تغيّر. المكان اهتز.
وظهر هو.
كائن أطول من البشر، يمشي ببطء، رأسه يغطيه قناع حجري، وفمه مفتوح على مصراعيه…
صوت أنفاسه مثل زئير شيطان مدفون منذ آلاف السنين.
توقف أمامها… وانحنى… وهمس:
"نور… سأذكّرك من تكونين فعلاً."
-
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon